رجل عجوز يعيش فى شوارع الزقازيق، لا يوجد أحد فى المدينة لا يعرف وجهه ذا الملامح البائسة أو يعطف على شيخوخته، فهو يتخذ من نفق "كوبرى الممر" ملجأ للمبيت، خوفًا من الأمطار، وشارع مولد النبى للجلوس فيه نهارًا، أما فى الصيف فلا يوجد مكان يناسب لفحة حرارته سوى شارع الكورينش.
صبحى يحمل متعلقاته وهموم السنين على كتفه
انفراد، التقى عم صبحى يوسف بنيامين 56 عاما، أشهر المشردين فى شوارع الزقازيق، والذى يعيش فيه منذ 16 عامًا، فحينما تمر فى الشارع تجده دوما يحمل على كتفيه حقيبة يد، وبطانية مهلهلة تقيه من برد الشتاء، وتستر جسده الذى أكل الرصيف ملابسه، ومع بداية الحديث معه طلب الجلوس معنا فى شارع جانبى بعيد عن ضوضاء السيارات ونظرات المارة إليه التى تجرحه، وفتح عم "صبحى" حقيبة اليد المتهالكة لنجد فيها قصصا وروايات وأشعار وأغانى لا تقل جودتها عن ما يقدمه الشعراء الكبار، والذى يؤكد أنه يكتب تلك الأشعار والخواطر ويدونها، فهى الملجأ الوحيد الذى يهرب منه من مأساته الصعبة، معربا عن أمله أن يجد من يكتشفه.
صبحى يروى قصته لـ "انفراد"
وأكد صبحى أنه من أسرة طيبة وله 6 أشقاء جميعهم يعملون فى وظائف حكومية مرقوقة، هو أصغرهم والمدلل بالطبع لدى الوالدين، مما جعله لا يكمل تعليمه والاكتفاء بالحصول على الشهادة الإعدادية، وتعلم مهنة الحياكة والعمل بها بأحد المصانع الملابس المعروفة، ليصبح "أسطى شاطر"، ويشير إلى أنه جاءته فرصة ليعمل "ترزى" فى دولة الكويت بعدما ذاع سيطه فى المهنة، فقرر تجربة السفر .
غزو الكويت يدمر حياة عم صبحى
ويكمل عم "صبحى"، سافرت للكويت فى عام 1986، وعشت هناك 7 سنوات، وقررت الاستقرار فيها، فهى بلد جميلة وأهلها طيبون، واستطعت بمهارتى فى مهنة الحياكة فى عمل شهرة واسم لى هناك وتكوين ثروة فيها بعد امتلاك "أتيليه" خاص بى، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.
فقامت العراق بالغزو المعروف وتشردت فى الشوارع وعدت إلى مصر بدون مليم فى جيبى، وهذه هى كانت بداية المأساة، فعندما عدت كان رحل والدى عن الدنيا وسيطر أشقائى على الميراث ولم يتبق شىء سوى شقة فى المنزل وبعد فترة طردونى منها، واستأجرت شقة أخرى وعملت ترزى لدى أحد الأصدقاء.
الحوالة الصفراء
ويضيف العجوز المشرد: بدأت أتعايش فى حياتى الجديدة بعد خسارتى أموالى وأسرتى بسبب مشاكل الميراث، وعشت فى شقة منطقة المساكن التعاونية بإيجار 350 جنيها وقتها لفترة، وبدأت الظروف المادية تتعثر معى، وبعدها تسلمت مبلغ 8 آلاف جنيه من تعويضات المتضررين من الغزو المعروفة باسم "الحوالة الصفراء" كدفعة أولى، واستأجرت محلا خاصا بى وبدأت الظروف تتعدل وبعدها بسنوات تسلمت مبلغ 41 ألفا من باقى التعويض كدفعة ثانية، ومازال 11 ألف جنيه متبقية من إجمالى 60 ألف جنيه قيمة التعويض، قائلاً: دخلت فى شراكة تجارة أدوات منزلية مع صديق بمبلغ التعويض، وبعد فترة خسرنا كل حاجة.
رحلة التشرد
ويضيف: فكرت فى الزواج كثيرا ولكننى لم أوفق فى العثور على شريكة العمر، خاصة أن ظروفى المادية بدأت فى التدهور وقتها خسرت كل حاجة للمرة الثانية لدرجة أننى أصبحت عاجزا عن دفع الإيجار أو حتى إيجاد لقمة العيش، فاضطررت لترك الشقة والمحل والعيش فى الشارع، كل دخلى هو مبلغ 160 جنيها قيمة إيجار شقة ميراثى والتى لا أستطع العودة إليها لكون المستأجر يعيش فيها، لتبدأ معى رحلة التشرد، ففى الشوارع عالم ثان لا يرحم أحدا، فى البداية كانت العيشة صعبة جدا وأشعر بمهانة شديدة ودخلت فى اكتئاب، وبعد سنوات بدأت أتعايش وأهل الخير من يحنو علىّ بأكلة طيبة أو مبلغ أسد به جوعى، ومن أصعب اللحظات هى فى فصل الشتاء القارص والرياح الشديدة والأمطار تغرق الشوارع وأنا أرتجف تحت بطانية مهلهة ومبتلة بالمياه، بالإضافة لتعرضى لمضايقات من الخارجين عن القانون والمدمنين آخرها سرقة محفظتى وأنا نايم كان فيها البطاقة الشخصية ومبلغ 10 جنيهات.
صبحى يعيش على أمل الحياة الكريمة
ويقول صبحى يوسف بنيامين، والدموع تزرف من عينيه، إننى على هذا الحال منذ 16 عامًا، فلو كان محكوما على بالسجن كان زمانى قضيت العقوبة وخرجت للدنيا، ولكن سجن الشارع عقوبته لا تنتهى ومأساته أصعب – على حد تعبيره – مؤكدًا أنه لا يتمنى شيئًا سوى أن يجد غرفة صغيرة ومعاشا شهريا يضمن له العيش ما تبقى له من عمر بكرامة، دون التشرد فى الشوارع .