فى الوقت الذى تفاقم فيه عجز الموازنة المصرية بصورة كبيرة، تبحث الحكومة عن آليات جديدة لتمويل المشروعات العامة والاستثمارية، أو لسد عجز الموازنة، ومن هذه الآليات عاد الحديث مرة أخرى عن "الصكوك" التى انتهت وزارة المالية من إعداد مشروع قانون بشأنها لعرضه على البرلمان.
الحديث عن الصكوك فى مصر بدأ أواخر عام 2012 وقت تولى جماعة الإخوان المسلمين الحكم، ولم يكن حديثا مجردا عن أداة تمويلية جديدة تضاف للاقتصاد المصرى، وإنما تلون بالصبغة السياسية الإسلامية، وهو ما جعلها محل خلاف كبير، خاصة مع اعتراض الأزهر الشريف على مشروع القانون المقدم من الحكومة فى صورته الأولى وقتها، والذى قالت أنه يتيح رهن أو بيع أصول الدولة.
تهويل الإخوان ورفض المعارضين شوه "الصكوك"
وكانت هناك مبالغات من قبل جماعة الإخوان فى الترويج للصكوك عند طرحها لأول مرة كأداة تمويلية باعتبارها ستنقذ الاقتصاد المصرى من عثرته وستأتى الاستثمارات الأجنبية بمليارات الدولارات سنويا، خاصة من دول الخليج، وكانت تقديرات حكومة الإخوان وقتها أن الاستثمارات لن تقل عن 100 مليار دولار عند طرح الصكوك لأول مرة فى مصر.
وفى المقابل كانت هناك هجمة شرسة من معارضى الإخوان ضد كل ما يطرحونه – ومنه الصكوك – خاصة مع اقتران كلمة "الإسلامية" بالصكوك فى مشروع القانون، فتعرض القانون لرفض شديد من كل معارضى الإخوان، خاصة مع وجود مادة بالقانون تتيح رهن أصول الدولة، وهو ما اعترض عليه الأزهر وقتها.
وتداركت جماعة الإخوان هذا الأمر معلنة عدم السماح برهن الأصول والمرافق المملوكة للدولة ملكية عامة مثل قناة السويس، والاكتفاء بطرح الصكوك التى تسمح برهن الأصول المملوكة للحكومة ملكية خاصة كشركة حكومية مثلا، ولكن هذا لم يتمكن من محو الصورة الذهنية السيئة التى تركها مشروع الإخوان الأول – قبل تعديله – عن الصكوك.
هل تمثل الصكوك بديلا للاقتراض؟
وحقيقة الأمر أن الصكوك لا تعدو مجرد أداة تمويلية تضاف للاقتصاد، ليست بديلة وإنما إضافية مثل السندات وأذون الخزانة والقروض، لكل منهما خصائصه ومزاياه وعيوبه، ففى الآونة الأخيرة تتجه الحكومة للاقتراض محليا عبر أذون وسندات الخزانة أو خارجيا من البنك الدولى والأفريقى بغرض سد عجز الموازنة، أما الهدف الرئيسى للصكوك فهو تمويل المشروعات، كما يمكن استخدام عوائدها لسد عجز الموازنة أيضا، ولكن هذا التوجه له معارضوه، وبالتالى لا تمثل أى أداة تمويلية بديلا عن الآخر.
وتفضل عدد من الدول خاصة دول الخليج العربى كالإمارات وقطر والسعودية، الاكتتاب فى الصكوك الإسلامية، والتى تتماشى مع أحكام الشريعة الإسلامية، وتعد ماليزيا وإندونيسيا من أكبر الدول التى تستثمر فى الصكوك الإسلامية.
ما هى الصكوك؟
والصكوك هى أوراق مالية تدعمها أصول مصممة (معين الصكوك ) وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، ويمكن تداولها فى الأسواق، وهى عبارة عن وثائق متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة فى ملكية أعيان أو منافع أو خدمات أو فى أصول مشروع معين أو نشاط استثمارى خاص، وذلك بعد تحصيل قيمة الصكوك وقفل باب الاكتتاب وبدء استخدامها فيما أصدرت من أجله، أى أن الصكوك أداة تمويلية للاستثمارات بصيغة تتوافق مع الشريعة الإسلامية، وهى قابلة للتداول.
وللصكوك أنواع عديدة هى صكوك المرابحة، وصكوك السلم، وصكوك الاستصناع، وصكوك الإجارة وهى الأكثر انتشارا، وصكوك المضاربة، وصكوك المشاركة، وصكوك الوكالة بالاستثمار، وصكوك المزارعة، وصكوك المساقاة، وصكوك المغارسة.
الحكومة تكتفى بالصكوك السيادية بقانونها الجديد
وأعلنت وزارة المالية أن مشروع القانون الذى انتهت من إعداده مؤخرا يقتصر على إصدار الصكوك السيادية ولم يسمح للشركات بإصدار الصكوك، والصكوك السيادية هى التى يقتصر إصدارها على مؤسسات الدولة دون القطاع الخاص.
وبحسب تعريف خبير التمويل الإسلامى الدكتور غسان الطالب، فإنه بموجب هذه الصكوك تقوم الدولة ببيع بعض الأعيان المملوكة للدولة المنقولة أو غير المنقولة، أو بيع خدماتها ومنافعها لصالح خزانة الدولة، وقد توظف الدولة عائد هذه الصكوك فى تمويل مشروعات تنموية أو فى مشروعات البنية التحتية التى تعود بالنفع العام على المجتمع، وقد تلجأ لها كذلك فى تمويل عجز الموازنة بدل اللجوء للاقتراض الخارجى باهظ التكلفة، وخصوصا أن عبء خدمة الدين فى الموازنة العامة يكون على حساب الإنفاق العام للدولة سواء الاستهلاكى أو الرأسمالى والذى غالبا ما يؤرق أصحاب القرار فى الدولة.
وحتى الآن من غير المعلوم ما إذا كان مشروع قانون الصكوك الجديد الذى انتهت منه الحكومة يستهدف تمويل مشروعات أم سد عجز الموازنة.
ما الفرق بين الصكوك والسندات؟
وتختلف الصكوك عن أدوات التمويل التقليدية كالسندات فى عدد من الخصائص، فالصك الإسلامى كالسهم يمثل حصة فى ملكية أصول مشروع أو نشاط استثمارى خاص، فحق صاحب الصك أو السهم هو حق عينى يتعلق بأصول المشروع أو الشركة، فى حين أن السند يمثل ديناً فى ذمة الشركة التى تصدره ولا يتعلق بأصول عينية.
وحامل السند لا يتأثر بنتيجة أعمال الشركة ولا بمركزها المالى بطريقة مباشرة، لأن مالكه يستحق القيمة الاسمية لسنده فى مواعيد الاستحقاق المدونة فيه مضافاً إليها الفوائد المحددة سلفاً، بخلاف الصك الذى يتأثر بنتيجة أعمال المشروع، ويشارك فى تحمل المخاطر، فله الغنم الذى يحققه المشروع، وعليه الغرم الذى يتعرض له، فالصك يشارك فى الأرباح المتحققة، ويتحمل الخسارة التى قد يتعرض لها المشروع.
كما تعد السندات المدعمة بأصول أوراق مالية تمثل قرضاً فى ذمة المصدر موثقاً برهن وضمان هو الأصول، وعليه فحق حامل السند متعلق بذمة المصدر، والأصول هى الضمان والرهن، بينما حق حامل الصك مقتصر على الأصول التى تمثلها الصكوك فحسب.
وباختصار فإن حامل السند ليس مالكا للمشروع أو الأصل ولا يتأثر بالخسارة، فهو يحصل على فائدة محددة سلفا على إقراضه لمصدر السند سواء حكومة أو شركة خاصة، فى حين أن مالك الصك يعد مالكا لأصل المشروع محل التصكيك ويتأثر بالمكسب والخسارة، ولا يعتمد على الفوائد الربوية.
كيف نشأت الصكوك فى العالم؟
ويعود سبب ظهور ونشأة الصكوك الإسلامية إلى حاجة المجتمع الإسلامى إلى مصادر تمويلية مستمدة من الشريعة الإسلامية بديلاً عن السندات المقترنة بفوائد ثابتة, حيث بدأ بعض الباحثين بطرح بدائل كـ "سندات المقارضة" وهو اصطلاح جديد طرح لأول مرة عام 1977م والذى يعتبر اليوم أحد أنواع الصكوك الإسلامية، وفى عام 1983 صدر فى تركيا نوع جديد من الصكوك الإسلامية وهى "سندات المشاركة" وقد كانت مخصصة لتمويل بناء جسر البوسفور الثانى، بحسب ورقة بحثية عن الصكوك نشرتها وزارة المالية السورية عبر موقعها الإلكترونى.
وأصدر مجمع الفقه الإسلامى المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامى فى دورته الرابعة المنعقدة فى جدة عام 1988م قراراً يتضمن الضوابط الشرعية لسندات المقارضة، وورد فى هذا القرار اقتراح تسمية هذه الأداة الاستثمارية بصكوك المقارضة.
ثم ظهرت دراسة فى عام 1995 تتعلق بصكوك الإجارة وهى أول دراسة من نوعها بعنوان (سندات الإجارة والأعيان المؤجرة) للدكتور منذر القحف, وفى دورته الخامسة عشر بمسقط عام 2004 أصدر مجمع الفقه الإسلامى قراراً يتضمن ضوابط صكوك الإجارة، وكان المجلس الشرعى فى هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية قد أصدر معياراً شرعياً مفصلاً عن الصكوك عام 2003.
ماليزيا تصدر أول صك لبناء محطة كهرباء بقيمة 350 مليون دولار وأروبا تلحقها
ثم انتشر بعد ذلك التعامل بالصكوك الإسلامية فى الدول الإسلامية، وقد تميزت بعض هذه الدول بالتوسع والتنوع فى مجال إصدار الصكوك كماليزيا التى تعتبر السوق الأولى للصكوك الإسلامية، وكان أول إصدار للصكوك فى ماليزيا عام 1995 لبناء محطة طاقة كهربائية بقيمة 350 مليون دولار، كما بدأت البحرين فى إصدار صكوك الإجارة والسلم عام 2001.
ولم يقتصر استخدام الصكوك الإسلامية على مستوى البلاد الإسلامية، بل انتشر إلى بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا، ففى عام 2008، أعلنت الحكومة البريطانية عزمها إصدار صكوك إسلامية لتمويل الموازنة العامة للدولة، ولا تبدو الصكوك غريبة عن بريطانيا، التى تسعى لأن يكون حى المال والأعمال فى عاصمتها لندن مركزاً لعمليات التمويل الإسلامى الدولية، لكن إصدار الصكوك اقتصر حتى الآن على الشركات فى الدول الغربية، وبذلك تكون الحكومة البريطانية أول حكومة غربية تصدر صكوكاً، وربما تليها اليابان وتايلاند.
وتعتمد الصكوك الإسلامية على مبدأ التوريق Securitization والذى يعنى "الحصول على الأموال بالاستناد إلى الديون المصرفية القائمة وذلك عن طريق خلق أصول مالية جديدة ".
وتمثل عملية التوريق تحويل قيمة الأصول المالية إلى أوراق مالية يمكن تداولها فى السوق، وتساعد هذه العملية على توفير السيولة للمصارف والمنشآت المالية التى تقوم بتمويل المشاريع وشراء الأصول.
وقد تطور مفهوم التوريق فى السبعينات وخاصةً فى السوق الأمريكية، حيث بدأ بالرهونات والقروض العقارية، فمثلاً شركة أو مؤسسة قائمة تقوم ببيع أحد أصولها الذى يدر تدفقا مالياً فى صورة دخل بشكل منفرد عن باقى الأصول للجمهور، ويملك كل منهم حصة شائعة فى هذا الأصل بموجب ورقة مالية.
وبالتالى يتضح أن التوريق يختلف عن الطرح الأولى للأوراق المالية بموجب أسهم أو سندات للحصول على التمويل ابتداءً، فكل منهم يقوم على طرح أوراق مالية للحصول على التمويل من الجماهير، ولكن التوريق يسبقه امتلاك المؤسسة لأصل مدر للدخل بمفرده، بينما الإصدار الأولى للأوراق المالية يكون من أجل استخدام التمويل لاقتناء أصول.
ويعتبر البعض أنه يمكن التعامل مع التوريق بما يتلاءم وأحكام الشريعة الإسلامية بسهولة أكثر من المفاهيم المصرفية السائدة، حيث يعتبر عمل المصارف الإسلامية أقرب إلى نوع من أنواع التوريق وإدارة المحافظ منها إلى الأسلوب المصرفى المتعارف عليه.
ويتضح من خلال السابق ذكره أن الصكوك هى مجرد أداة تمويلية تضاف للاقتصاد، لن تكون بديلا عن أدوات التمويل التقليدية، كالسندات وأذون الخزانة، أو حتى القروض الخارجية، ولكنها قد تكون وسيلة مساعدة لجذب رؤوس أموال تفضل الاستثمار فى هذا النوع من الاكتتابات، قد تجيد الحكومة استخدامها فى خلق مشروعات جديدة تضيف للاقتصاد المصرى، وقد تقصر استخدامها لسد عجز الموازنة، وهو ما سيتحدد عند طرح القانون للنقاش بالبرلمان.