رحل البابا كيرلس السادس بعد عشر سنوات من رسامته (تعيينه) بطريركا للأقباط، قلبه الزاهد لم يحتمل مرارات الكراسى وأعباء الخدمة، رئتاه الرقيقتان تليقان بالرهبنة أكثر، رحل البابا كيرلس فتعلقت سيرته بقلوب الملايين يقصدون مزاره طلبا للشفاعة وقربا من الله الذى عرفه بزهده وفقره وقلبه.
البابا كيرلس آخر الباباوات النساك، فلم يرتد إلا شالا صوفيا مهترئا يغطى به رأسه تاركا عمامة البطريرك وتاجه الذهبى، الذهب فتنة يخشاها القديس الزاهد، وعقب رحيله اعترفت به كنيسته قديسا من فرط ما ترك ومن كثرة ما فعل لأجلها ولأجل الله الذى عرفه فأحبه.
آلاف الزوار يقصدون طاحونة البابا فى عيده
فى ذكرى البابا كيرلس السادس، يقصد آلالاف الزوار طاحونته التى عاش فيها حياة الزهد والتقشف ست سنوات كاملة، يخبز القربان بيده، يطعم الفقراء، يصلى لأجلهم، حيث كان يسمى مينا "المتوحد"، بعدما هجر دنيا رآها زائلة بعينيه المحفورتين.
وجوه حول طاحونة القديس
فى الطريق إلى الطاحونة التى تقع بمصر القديمة على تبة عالية، تصعد بنا السيارة شوارع ضيقة وأزقة مزدحمة بفقراء أحبوا القديس فسكنوا جواره، فى حوار ضيقة المساحة واسعة المودة، تصل إلى الطاحونة، يقودك إليها صوت التراتيل والابتهالات وصياح السيدات "شفاعتك يا بابا كيرلس"، وقبل أن تدخل ترى الموالد المصرية الشعبية قد أخذت موقعها.
الحمص والفول السودانى فى العربات الصغيرة، لعب الأطفال على الأرصفة، وعامل "دق الصليب" وصور القديسين على رصيف ثالث، كل فى موقعه قد تأهب لليلة الكبيرة، رزق وبركة، عند "رومانى" عامل دق الصليب ترى صورة البابا كيرلس إلى جوار العذراء والشهيد مارجرجس وأيقونات قبطية كثيرة، يحب الشباب أن يحفروها على جلودهم كوشم لا يمحوه زمن، صور تغير لون الجلد كما تتعلق بها القلوب.
وأطفال يجربون دق الصليب فى اليد لأول مرة، فيصير رمزا وعلامة على مسيحية يحبون أن يعرفوا بها رغم ما تحمله عملية "دق الصليب" من آلم مبرح لا يزول من الذاكرة.
إلى جوار صور الصليب، بائع البخور الكنسى وقد وضع صورة البابا كيرلس على بضاعته وكتب عليها بخور "آفا كيرلس" وآفا كلمة يونانية تعنى أنبا.
فى الطاحونة.. سيرة البابا تعزى محبيه
بعدها بقليل، تصل الطاحونة وقد صارت كنيسة عانقت صلبانها السماء فالتحمت بها، وتحتها صورة القديس البابا كيرلس يحمل صليبه فى يده، فيصل إلى صليب آخر فوق المنارة، وتحته الكشافة الكنسية بزيها الأزرق تنظم دخول وخروج الزوار فى ليلة البابا الكبيرة.
على يسار البابا ترى صورة البابا كيرلس مرسومة على الحائط كبيرة وشاسعة وتحتها عبارته الأثيرة "لا تفكر فى الأمر كثيرا ودع الأمر لمن بيده الأمر" وفى منتصف ساحة الطاحونة أو الكنيسة، طوابير ممتدة لآلاف قصدوا البابا من كل حدب وصوب، حبا وأملا ورجاء، فتقسم الكشافة الطريق إلى نصفين الأول للرجال والثانى للنساء، يعبرون بسرعة لزيارة الطاحونة التى تقع فى مبنى صخرى من دورين، أمام الأول تزغرد سيدة "جيتلك يا أبويا.. جيتلك يا شفيعى"، وتردد ثانية السلام لك يا بابا كيرلس ويتردد فى السماء تمجيد القديس.
تدخل الدور الأول من الطاحونة فترى مقصورة زجاجية امتلأت برفات قديسين كثر تعذبوا لأجل المسيحية رفضوا ذهب الملك "دقلديانوس" فماتوا بسيفه ومن بين الرفات "القديسة دميانة" والقديسة رفقة وأطفال بيت لحم وشهداء أخميم والقديس سمعان الخراز والأنبا موسى الأسود وغيرهم كثيرين، وفى المنتصف صورة البابا كيرلس بشعره الأسود ولحيته الكثة وعينيه الزاهدتين كرهبان الصحراء وشيوخ البرية، يقف بصليبه يحرس أجساد القديسين فيخاف منه العاصون ويبتهج لأجله التائبون.
نصعد سلالم خشبية ضيقة داخل الطاحونة تصل بنا إلى مزار البابا كيرلس كنيسته ومقر عبادته، على أستار الهيكل تعلق صورته، وقد نسجت باليد على ستارة حمراء تغطى هيكلا يعلوه قربانا وشمعتين مضاءتين بنور قداسته، كما كتب أعلى الهيكل أسماء الرسل "توما الرسول وسمعان الرسول وتداوس الرسول ويوحنا وفيلبى".
وأمام مزاره تصيح سيدة عجوز "خلى بالك منى يا حبيبى، ولادك غلابة يا سيدنا وتعبانين" وتبكى بخشوع وتركع أمام مزاره وتقبله.
تخرج من المزار، فترى الحائط يحمل صورة أخرى له كتب عليها "لا يوجد شىء تحت السماء يكدرنى لأنى محتمى فى ذلك الحصن الحصين، داخل الملجأ الأمين، مطمئن فى أحضان المراحم، وحائز على ينبوع من التعزية" فتعرف أن البابا كيرلس قد طلب الآخرة وذهب إليها كما أراد.
أنبا يوليوس: مستشفى مارمينا تخدم المسلمين والأقباط وتعالجهم بالمحبة
أمام الطاحونة وفى ساحة الكنيسة، يقف أنبا يوليوس أسقف مصر القديمة والخدمات العامة والاجتماعية، وأحد أبناء البابا كيرلس حيث ترهب فى نفس الدير االذى جدده البابا كيرلس دير "مارمينا بكنج مريوط"، يقف حوله العشرات يطلبون الصلاة والبركة فيضع صليبه على رؤوسهم ويرتل فى سره، ويردد بصوت عالى ربنا معاكم، ينتهى الأنبا يوليوس من صلواته ويقول إن البابا كيرلس السادس توفى عام 1971 فتحتفل الكنيسة اليوم بالذكرى الـ45 لوفاته، والعيد الثالث لتقديسه بعدما اعترف به المجمع المقدس للكنيسة القبطية منذ ثلاث سنوات بالبابا كيرلس ضمن قديسيها رسميا، مؤكدا أن البابا كيرلس سكن الطاحونة عام 1936 وظل بها حتى عام 1941 وكان يسمى الراهب مينا المتوحد، وفى عام 1941 خرج منها وظل يخدم بكنائس منطقة مصر القديمة يقيم القداسات اليومية حتى أسند له عام 1941 رئاسة دير الأنبا صموئيل المعترف فى جبل القلمون بمغاغة فعمره وجدده.
يضيف الأنبا يوليوس عام 1947 عاد إلى مصر القديمة وبنى كنيسة مارمينا بالنذور القليلة والتبرعات التى كانت تصله حيث كان يبنى الكنيسة بيديه مع العمال حتى جاء عام 1949 فألحق بها سكنا للطلاب المغتربين وكان يصلى للمرضى فتشفى الناس على يده من الأمراض.
"ببركة البابا كيرلس أسسنا مستشفى خيرى فى المنطقة يخدم المسلمون والأقباط بنفس التكلفة البسيطة، وهو أحد أهم عوامل المحبة والوحدة بين الناس هنا" يقول الأنبا يوليوس وهو يشير بيده، ويؤكد أن المستشفى له دور اجتماعى وخيرى كبير فى المنطقة التى يشرف عليها باعتباره اسقفا لمصر القديمة.
البابا كيرلس يبنى دير مارمينا بيديه وفاءً لشفيعه القديس
عام 1959 القس مينا المتوحد كرسى مارمرقص وصار البابا رقم 115 فى تاريخ الكنيسة القبطية، ولأن قلبه كان متعلقًا بالقديس مينا عمل البابا كيرلس على تجديد دير مارمينا بصحراء مريوط بالإسكندرية.
صلى البابا كيرلس فى أول عيد للشهيد مارمينا بعد تعيينه بطريركًا فى الصحراء على اطلال الدير الأثرى المتهدم واشترى المساحة المقام عليها الدير الحديث مجاورة تمامًا للمنطقة الأثرية وبدأ التعمير من جديد.
أعاد البابا الأنبا كيرلس السادس جزءا من رفات الشهيد مارمينا العجائبى من كنيسته بفم الخليج إلى دير مارمينا بمريوط فى فبراير 1962 م.
بدأت عمليات الكشف الأثرى تأخذ صفتها المنتظمة منذ أن أنشأ البابا كيرلس السادس الدير الحالى، حيث بدأ المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة العمل منذ 1961 م بإشراف العالم الألمانى د. بيتر جروسمان لبضعة شهور سنويًا، حتى سلم البابا كيرلس السادس أمانة الديرة لتلميذه الخاص القمص مينا أفا مينا ليواصل عمل البابا كيرلس السادس فى التعمير الروحى والإنشائى للدير.
وقبيل وفاته أوصى البابا شنودة بدفنه فى در مارمينا بمريوط ونقلت الكنيسة رفاته إلى الدير عام 1972 فى احتفال مهيب
الكنيسة أعلنت أن العذراء ظهرت فى عصره لأول مرة
فى 2 أبريل من عام 1968 أعلنت الكنيسة أن السيدة العذراء تجلت فوق قباب كنيستها فى حى الزيتون، مما جذب أنظار العام كله إلى مصر والى الكنيسة القبطية الارثوذكسية.
البابا كيرلس يخاصم السياسة وينتصر لفلسطين
خاصم البابا كيرلس السياسة طوال سنوات توليه الكرسى الباباوى، فلم يختلف مع رئيس أو يحب وزير، إلا أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان يحب البابا كيرلس بشكل خاص فزاره فى افتتاح كاتدرائية القديس مرقس القبطية الأرثوذكسية عام 1968 ليسجل التاريخ أول لقاء بين رئيس الجمهورية الجديدة والبابا الناسك، يسجل التاريخ للبابا كيرلس موقفه المعادى لإسرائيل حيث ينسب له منع الأقباط من زيارة القدس عام 1968 بعد وقوع الأراضى العربية فى قبضة الاحتلال.