تمثل الجغرافيا عامل مهم فى سياسات الطاقة العالمية، وربما لا يوجد مثال أكثر وضوحا من الاحتياج الأوروبى للطاقة والغاز الروسى، والذى كان محل انتقاد كبير ووجه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لألمانيا صباح انطلاق قمة الناتو، أوائل الشهر الجارى، عندما قال إن برلين أسيرة لروسيا، مشيرا إلى لجوءها لشراء مشروع خط أنابيب بحر البلطيق بين البلدين.
وفى هذا الصدد تحدثت مجلة "ذا ناشونال إنترست"، الأمريكية، فى تقرير طويل على موقعها الإلكترونى، اليوم الإثنين، عن اكتشافات الغاز قبالة السواحل المصرية، مشيرة إلى أن مصر فى طريقها لتصبح مُصدر كبير للغاز الطبيعى، فعلى الرغم من الأمر سوف يستغرق وقتا طويلا لكن توفر البنية التحتية لتصدير الغاز الطبيعى المسال سيجعل منها دولة مصدرة رئيسية.
ورأت أن اكتشافات الغاز الضخمة فى مصر توفر خيارا جديدا لأوروبا المتعطشة للطاقة، وبذلك يغير ديناميكية سياسات الطاقة الأوروآسيوية، وفضلا عن حقل ظهر، فإنه فى أواخر يونيو 2018، اكتشفت شركة إينى الإيطالية حقل غاز أخر ضخم فى منطقة نور بشمال سيناء بالبحر المتوسط، وتقول المجلة إن هناك احتمال بأن تكون إمكانات مصر من الغاز فى البحر كبيرة، وربما تشكل تغيير فى اللعبة.
وتشير التقديرات إلى أن حجم حقل نور يبلغ 90 تريليون قدم مكعب من الاحتياطيات المؤكدة، والتى سوف تنقل مصر من 65.2 تريليون قدم مكعب احتياطات مؤكدة عام 2016، وفقا لشركة بريتش بتروليوم، إلى 155.2 تريليون قدم مكعب، وهو ما يجعلها على قدم المساواة مع الجزائر ونيجيريا.
وتؤكد المجلة الأمريكية، أن هذا الاكتشاف جنبا إلى جنب مع حقل ظهر، الذى تم اكتشافه فى 2015، من المتوقع أن يعود بمصر مرة أخرى لتصبح مصدرًا صافيا للغاز عام 2019، وهو ما يأتى فى وقت هام للغاية لمصر بعد سنوات من الاضطرابات السياسية التى عصفت بالاقتصاد.
وتشير إلى عودة الاقتصاد المصرى لمسار الاستقرار مرة أخرى فى 2018، حيث ارتفاع معدل النمو وتراجع التضخم، فضلا عن تعافى احتياطى النقد الأجنبى، ذلك على الرغم من استمرار العديد من التحديات المتمثلة فى الزيادة السكانية والحاجة لمزيد من العمل على تعزيز التنافسية والحوكمة والشفافية ومحاسبة الشركات المملوكة للدولة والحاجة أيضا لإدماج المرأة والشباب فى سوق العمل ومعالجة اختلال الميزان التجارى الذى بلغ 11.2% من الناتج المحلى الإجمالى فى 2017.
وتشير المجلة إلى انه لحسن الحظ، طورت مصر البنية التحتية للغاز، إذ إنها تمتلك محطتى تسييل مبنية على طول الساحل الشمالى، هذه البنية التحتية حيوية لتحويل الغاز إلى سائل، والذى يمكن شحنه بعد ذلك، وفى فبراير الماضى، وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية بقيمة 15 مليار دولار تسمح للأخيرة باستخدام محطات تسييل الغاز المصرية، مما من شأنه أن يوفر منفذا لحقل الغاز الإسرائيلى ليفياثان.
وإسرائيل هى بالفعل مصدر للغاز للأردن لكن ليس لديها محطة للغاز الطبيعى المسال (LNG)، كما أن تكلفة إنشاء مثل هذه المحطة ضخمًا للغاية، ونتيجة لذلك، ينظر إلى المنشآت غير المستغلة فى مصر على أنها حل جيد، تستطيع إسرائيل من خلاله تصدير الغاز إلى مصر وإعادة شحنه إلى أوروبا.
وفى الوقت نفسه، تتطلع قبرص، التى أجرت اكتشافاتها الخاصة للغاز الطبيعى، ولكنها تفتقر أيضًا إلى محطات تسييل الغاز، إلى مساعدة الشركات المصرية، علاوة على ذلك، تم أيضًا مناقشة خطة لتطوير خط أنابيب يربط بين مصر وقبرص وإسرائيل واليونان وإيطاليا.
وفى مطلع الشهر الجارى أشار ممدوح سلامة، الاقتصادى الخبير فى النفط ومستشار للبنك الدولى، إلى أن مصر باعتبارها مركزا تجاريا للغاز الدولى، فإنها سوف تربح أمتياز أيضا من تحويل الغاز الطبيعى القبرصى الإسرائيلى وفى نهاية المطاف اللبنانى والسورى إلى الغاز المسال، فضلا عن إعادة تصديره جنبا إلى جنب مع الغاز الطبيعى المسال الخاص بها إما إلى أوروبا أو على الأرجح إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث يتزايد الطلب على الغاز الطبيعى المسال على قدم وساق".
وتخلص المجلة بالقول أن مصر لن تكون بديل فورى للغاز الروسى بالنسبة لأوروبا، ومع ذلك فإن بعض الأمور حاضرة، وهناك المزيد مما يجعل مصر مركزًا رئيسيًا للغاز الطبيعى لشرق المتوسط، مع شبكة معقدة من المنتجين المحتملين، بما فى ذلك قبرص وإسرائيل وربما على المدى البعيد لبنان وسوريا.
وتختم أن هناك عقبات كبيرة يجب التغلب عليها، بما فى ذلك قرار مصر العمل بمفردها أو مع الشركاء، ومقاومة تركيا لتطوير قبرص حقولها البحرية والحاجة إلى قدر من الاستقرار السياسى فى سوريا، لكن هناك شىء واحد مؤكد، وهو أنه من الأفضل بناء جسور بين الدول عن طريق دبلوماسية الغاز بدلاً من الذهاب إلى الحرب، إن تطوير مركز نفط شرق البحر المتوسط، الذى تم إنشاؤه حول مصر، سيقطع شوطا طويلا لبناء الجسور من خلال تعزيز روابط الطاقة الإقليمية.