كان المساء يخيم على مدن وقرى العراق يوم 15 أغسطس «مثل هذا اليوم عام 1956»، وكان ليل العاصمة بغداد يشهد تفاعلات ساخنة للدعوة التى أطلقتها النقابات والهيئات الشعبية بالإضراب العام، تضامنا مع مصر فى معركتها ضد الإجراءات الغربية التى تتزعمها بريطانيا، بسبب قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956.
كان تفاعل الشعب العراقى مع قرار تأميم قناة السويس رائعا، فى الوقت الذى «اتسم الموقف الرسمى بالتناقض، إذ كان ظاهره التأييد وباطنه الرفض والضيق، ويؤكد ذلك تصرفات الحكومة العراقية وفى مقدمتها رئيس وزرائها نورى السعيد»، حسب رصد الدكتور عبدالله فوزى الجناينى فى كتابه «ثورة يوليو والمشرق العربى 1952– 1956»، مضيفا: «كان الملك فيصل الثانى «ملك العراق»، وبصحبته الأمير عبدالإله ولى العهد ونورى السعيد فى لندن فى ضيافة أنتونى إيدن، رئيس الوزراء البريطانى، وقت وقوع حدث التأميم، ووقع النبأ على الجميع كالصاعقة، حتى أن نورى السعيد انفعل بشدة وطلب من إيدن التصرف بحزم تجاه هذه المسألة، وانبرى يقول له: «أمامكم طريق واحد فقط، هناك حاجة لتوجيه ضربة عسكرية سريعة بقدر الإمكان».. وعبر نورى عن مخاوفة من مغبة ماحدث على مكانته السياسية هو وحليفته إنجلترا فى العراق ومنطقة المشرق العربى بقوله: «إذا تركته دون عقاب، سيقلب علينا الجميع».
ينقل «الجناينى» نص برقية لوزير خارجية العراق توفيق السويدى إلى رئيسه نورى السعيد يوم 2 أغسطس 1956 وكان نورى لايزال فى لندن: «إذا وجدتم أن قضية التأميم ستحل وفقا لرغبة مصر، أرى أن تفاتحوا سفير مصر فى لندن فتبينوا له استعدادكم لمساعدة مصر فى محنتها، هذه أول مرحلة يجب أن تقوم بها العراق بصفتها دولة عربية وصديقة للحلفاء الغربيين..أما إذا وجدتم الجو مكهربا فسيتمخض عنه إجراءات فعلية ضد مصر، فاتركوا رأس عبدالناصر يتكسر، ويحصل على حصاد جهله وغطرسته»، فرد عليه نورى: «إن الجو مكهرب والولايات المتحدة أيدت بريطانيا، وهذا معناه: دع رأس عبدالناصر ينكسر».
كان موقف الساسة العراقيين غير الرسميين وكذلك الموقف الشعبى والحزبى عكس موقف الحكومة، ووفقا للجناينى: «تفاعلت الأحزاب العراقية مع القضية المصرية فى كل مراحلها، فأيدت سياسة مصر، وانتقدت وسائل الدول الغربية لترهيب الحكومة المصرية سواء كان ذلك دبلوماسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، ولم تترك مناسبة إلا كانت بجانب مصر حكومة وشعبا، فضلا عن أنها تزعمت الحركة الشعبية العراقية، وقدمت دورا ملموسا فى تشجيع العراقيين على الخروج عن موقف حكومتهم السلبى، وقادتهم نحو تأييد القضية المصرية، وتقدمت حركة المظاهرات والإضرابات التى شهدتها الساحة العراقية خلال تلك الفترة»، يضيف الجناينى: «بالنسبة للموقف الشعبى، رحبت الأوساط الشعبية كافة بقرار التأميم، وأبرقت فئات نقابية وشعبية عدة للسلطات المصرية فى بغداد والقاهرة مؤيدة ومرحبة، واستنكرت صمت حكومتها فى بادئ الأمر إزاء القضية، كما توافدت جموع غفيرة من الشعب العراقى على مقر السفارة المصرية ببغداد لتقديم التهانى بهذه المناسبة، وأعربوا عن استعدادهم للتطوع للقتال بجانب الجيش المصرى للدفاع عن القناة إذا ما اعتدى عليها، وبلغ الأمر مبلغه أن قدم بعضهم لوحة تذكارية للسفير المصرى، كتب عليها اسم قناة السويس بدمائهم».
يضيف الجناينى: «أصدرت النقابات والهيئات الشعبية المختلفة نداء إلى الشعب العراقى ناشدته فيه أن يتضامن مع باقى الشعوب العربية لنصرة مصر، وذلك بإعلان الإضراب العام عن العمل فى 16 أغسطس 1956 يوم انعقاد مؤتمر لندن، وطلبت من الصحف نشره غير أن الحكومة العراقية منعت الصحف من الإشارة إليه، فلجأوا إلى طبعه فى منشور سرى تم توزيعه على نطاق واسع، واتخذت نقابة المحامين قرارا بالامتناع عن العمل فى ذلك اليوم، واجتمعت غرفة تجارة بغداد، وأصدرت نداء إلى التجار بالمشاركة فى هذا الإضراب، بإغلاق حوانيتهم فى اليوم المذكور.. وحاولت الحكومة العراقية الحيلولة دون تنامى هذا النشاط، فأنذرت وزارة الداخلية كل الصحف بالامتناع عن نشر أى نداء من هذا القبيل أو أن تشير من قريب أو بعيد إلى إضراب ومظاهرات شعبية لتأييد مصر، وفى مساء يوم 15 أغسطس «مثل هذا اليوم عام 1956» أخذ رجال البوليس يمرون على أصحاب الحوانيت بالأسواق والشوارع فى بغداد ويحذرونهم من إغلاق حوانيتهم، وهددوهم بأنهم إن فعلوا ذلك تسحب رخصهم، على أن ذلك لم يُثن الشباب عن عزمه على إنجاح الإضراب، فكانوا يمرون بالمحال، ويناشدون أصحابها بإظهار عواطفهم تجاه مصر».
فهل استجاب الشعب العراقى لتهديد حكومته؟