من شرفة القصر الجمهورى، يطل الزعيم الشعبى، تتعالى أصوات الجماهير الواقفة فى استقباله، يحييهم بحفاوته المعتادة، يرفع يديه، ويبتسم ابتسامة واضحة، تزيد من بهاء ملامحه البارزة، يخطب جمال عبدالناصر فى الجماهير، يستخدم كلمات لم يعتدها المصريون ، كالكرامة والحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية، كلمات تليق بأول رئيس مصرى للبلاد فى العصر الحديث.
يتكرر المشهد السابق تقريبًا فى جميع خطب الرئيس الكاريزمى خلال لقائه بالجماهير، فالرئيس الراحل استطاع أسر قلوب ملايين من الفقراء بعد أن وضع حزمة من الإصلاحات العاجلة، انعكست بشكل مباشر عليهم، من أمثال قانون الإصلاح الزراعى الذى أعطى للفلاحين المعدمين الحق فى امتلاك 5 أفدنة من الأراضى الزراعية، بعد أن كانوا يعملون بزراعتها مقابل أجر يومى زهيد، تحت ظروف تخلو من مفهوم العدالة، ذلك إضافة إلى إقرار مجانية التعليم التى أسهمت فى تبلور الطبقة الوسطى، هناك أيضًا وضع خطة صناعية متكاملة، والبدء فى مشروعات تهدف لنهضة البلاد.
كان الملك فاروق قد استجاب لإنذار حركة الضباط الأحرار، ممثلًا عنهم اللواء أركان حرب محمد نجيب الذى طالبه بمغادرة البلاد، تنفيذًا لرغبة الجماهير وقادة الثورة الرافضين لبقائه، وقد غادر مصر على متن «المحروسة» وفى تمام الساعة السادسة وعشرين دقيقة مساء يوم 26 يوليو 1952.
من جانب آخر، رغب الضباط الأحرار فى استكمال ثورتهم بعزل «فاروق» ونفيه، دون محاكمته أو إعدامه، فى الوقت نفسه لم يشأ «فاروق» المماطلة فى الأمر بعد أن رفضت بريطانيا حمايته، وفقًا لشهادة الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، فوافق على مغادرة البلاد فى هدوء، وبادله الضباط الأحرار ذلك بالتحية العسكرية اللائقة فى أثناء مغادرته، ليسدل الستار بذلك على فترة حكم العائلة العلوية لمصر، دون إراقة نقطة دماء واحدة.
رجل التناقضات
رغم ما تناقلته الكتب التاريخية المؤيدة للثورة عن فساد الملك فاروق وحاشيته، فإن الأمر لم يكن بهذا السوء، فقد سعى «فاروق» خلال فترة حكمه التى امتدت لـ 16 عامًا إلى عمل عدد من الإصلاحات التى كانت تهدف إلى الحد من نفوذ المستعمر البريطانى، والأجانب بوجه عام، وإن قيل فى ذلك إن هدف «فاروق» بإبعاد الأجانب عن المشهد جاء فى الأساس ليستأثر بالحكم.
أما حرب فلسطين عام 1948، فقد خاضها أيضًا سعيًا لاكتساب مجد عربى، وتخفيف الضغط الشعبى عليه، بسبب الفساد وقتها، وقد كانت صراعات «فاروق» لا تنتهى، حيث حمل عداء لحزب الوفد، وحكومته من جانب، وكان رافضًا لتيار جماعة الإخوان، ومؤسسها من جانب آخر.
وبعيدًا عن ذلك، فقد أجبر الملك فاروق فى الأساس على الحكم، بصفته وليًا للعهد، ولم يسع له عن طريق الدخول فى معارك سياسية، حيث تولى حكم مصر عام 1936، وكان وقتها لم يبلغ الـ 18 من عمره، وقد رحب الشارع بالملك الشاب، نتيجة كرههم للملك فؤاد وحكمه، والذى شهد عصره صعودًا لنفوذ الأجانب فى مصر.
وينسب للملك فاروق كثرة أعماله الخيرية، فقبل أن يتولى حكم البلاد تبرع بمبلغ مائة وخمسين ألف جنيه للأعمال الخيرية، وألف جنيه أخرى لشراء سجاد للجامع الأزهر، ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ سعى إلى تخصيص منح تعليمية لطلاب الصين المسلمين، وغيرها من التبرعات التى كانت تذهب لدور الأيتام والقرى والأحياء الفقيرة.
وقد كان كل ما سبق يتم منحه كهبات من ولى النعم، دون أن يكون حقًا مكتسبًا للفقراء فى ثروة البلاد، وهو ما تغير عقب قيام ثورة يوليو، ويذكر من عاصر ذلك التاريخ نسبة الأمية والمرض والفقر والجهل التى عانى منها المصريون الذين كان أغلبهم من الحفاة.
وينسب للملك فاروق أيضًا توقيع اتفاقية عام 1936، ومحاولة الحد من الامتيازات الأجنبية، عن طريق توقيع اتفاقية «مونتريال»، وكذلك تمصير قيادة الجيش، وانضمام مصر لعصبة الأمم المتحدة، وتوقيع بروتوكول جامعة الدول العربية، كما قام بإنشاء جامعة الملك فاروق الأول، جامعة الإسكندرية الآن، وأيضا تخصيص يوم للاحتفال بعيد العلم سنويًا.
وينسب لـ«فاروق» أيضًا إصدار حزمة من القوانين المهمة، كقانون إنصاف الموظفين لزيادة الأجور وتحسين مستوى المعيشة، وقانون محاسبة الفقراء، وقانون السلطة القضائية الخاص باستقلال القضاء، رقم 66 لسنة 1943، وقانون الكسب غير المشروع.
كما شهدت فترة حكم «فاروق» انتهاء العمل بنظام المحاكم المختلطة، فضلًا على إنشاء عدد من الهيئات والوزارات فى عهده، كان أهمها على الإطلاق إنشاء ديوان الموظفين، والذى نظم عمل الموظفين، وحدد درجاتهم ومهامهم ورواتبهم وآليات الترقى والمحاسبة، ومازال الجهاز الإدارى للدولة يبنى على نفس القواعد التى وضعت فى ذلك العصر البعيد.
الملك المقامر
وقد نسب للملك فاروق عدد من التصرفات الطائشة، كالمقامرة، وكثرة العلاقات النسائية، والشراهة فى الأكل، وفى تصريحات سابقة لجلال علوبة، قائد يخت المحروسة السابق، المسؤول عن نقل «فاروق» إلى منفاه الأخير، أكد أن الملك فاروق لعب القمار فى أواخر أيامه، وذلك لأنه لم يجد من ينصحه من المقربين، كما أصابه اليأس بعد انفصاله عن الملكة فريدة.
وأضاف «علوبة» أن «فاروق» اضطر للزواج من الملكة «ناريمان» من أجل إنجاب ولى للعهد، كعادة الملوك والأمراء، وأن «فاروق» برغم حرصه على وجود العديد من النساء الجميلات حوله، فإنه لم يكن يقيم معهن علاقة غرامية، وأن كل ما قيل فى هذا الشأن محض افتراء.
وقد قيل إن السبب فى تلك التصرفات الطائشة هو صديقة الإيطالى أنطوان بوللى الذى كان يعمل كهربائيًا فى القصر، والذى نجح فى التقرب من الملك، وكان مقربًا له للدرجة التى أصابت الملك بحزن شديد عند فراقه، بسبب رفض الضباط الأحرار مصاحبة «بوللى» له فى أثناء خروجه من مصر، وقد ذكر موقع «فاروق مصر»، الخاص بتوثيق سيرة الملك فاروق وعائلته، أن «بوللى» كان مسؤولا عن تلبية رغبات فاروق، ويقال إنه كان المسؤول عن تجهيز السهرات الخاصة له.
وأغلب المقربين من الملك «فاروق» لم يصفوه بقسوة القلب أو التعالى، ويبدو أن الملك كان يحمل طبائع إنسانية، وشخصية غير مبالية، قليلة الخبرة فى مجال السياسة، وقد كان رجل الشارع يرى فيه امتدادًا للدولة العثمانية، فقد ظل للأجانب والأتراك فى عصر «فاروق» نفس الامتيازات.
خلال الخمسينيات من القرن الماضى، وقبل عامين من قيام ثورة يوليو، فجر الصحفى الشاب وقتها إحسان عبدالقدوس قضية الأسلحة الفاسدة على صفحات مجلة «روز اليوسف»، والتى اتهم فيها الملك وحاشيته وعددًا من رجال الجيش والأحزاب بالضلوع فى شراء أسلحة فاسدة، تسببت فى هزيمة مصر خلال حرب 48، الأمر الذى نتج عنه ضياع فلسطين، وإعلان قيام دولة إسرائيل المزعومة، فيما عُرف بالنكسة.
مقالات «عبدالقدوس» تسببت فى تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة، كما أجبرت الحكومة على إثارة الأمر، وفتح تحقيق رسمى فى الموضوع، بعد أن قدم وزير الحربية مصطفى نصرت بلاغًا للنائب العام، وقد حفظت التحقيقات المتعلقة بضلوع الملك وحاشيته فى شراء أسلحة فاسدة للجيش فى مارس عام 1951، وإن ظلت أصداء فضيحة الفساد تتردد فى عقول المصريين وقلوبهم، خاصة قادة الجيش وأفراده.
وقد تضمنت أوراق القضية إثباتات تشير إلى أن الأمم المتحدة بعد أن قررت وقف تصدير الأسلحة للدول المتحاربة فى فلسطين، لجأ الملك وعدد من رجال الجيش إلى عقد صفقات لشراء أسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية من الجيش البريطانى، فى حين أصر الملك على جلب صفقة أخرى من الأسلحة من إيطاليا، تبين أنها من مخلفات الحرب العالمية أيضًا.
ورغم ضلوع الملك وحاشيته فى تلك الصفقة الفاسدة، فإن القضية تم استغلالها كأحد العوامل التى أطاحت بالملك، حيث كان وجوده فى حكم البلاد يعنى استمرار الاحتلال البريطانى لمصر، كما أكد إحسان عبدالقدوس، وذلك وفقًا لرواية الكاتب طارق عزامى حول حديث دار بينه وبين الكاتب الراحل بمقر جريدة «روز اليوسف»، لكن «إحسان» أيضًا لم ينف علاقة الملك بالقضية، بدليل تورط حاشيته بالصفقة، وقريب له يدعى عباس عبدالحليم، وقد أكد «إحسان» أيضًا أنه رغب فى إثارة غضب الجيش ناحية القصر، لكونه القوة الوطنية الأكثر تنظيمًا وقتها.
طريقة وفاة الملك فاروق أيضًا عام 1965 فى أثناء تناوله وجبة دسمة فى أحد المطاعم أثارت عاصفة من الجدل، خاصة بعدما أشاعت عائلته أنه قتل بالسم من قبل أحد رجال المخابرات المصرية، ولم يمت بسبب «التخمة»، كما ذكر التقرير الطبى وقتها، الأمر الذى يؤيده سجله الطبى، حيث كان مريضًا بالقلب، وحذره الأطباء أكثر من مرة من الطعام الدسم.
ورغم الاتهامات السابقة، لم تشر العائلة إلى سبب جوهرى يؤيد رواية ضلوع المخابرات فى اغتياله، خاصة أن الضباط الأحرار عند قيام ثورة يوليو كان بإمكانهم محاكمته وإعدامه بدلًا من ترحيله ونفيه، وغير صحيح أن النظام المصرى وقتها كان يخشى من عودة الملكية فى مصر، خاصة أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تحول خلال الستينيات من القرن الماضى إلى أيقونة عربية.
ولى العهد
قبل بضعة أشهر من قيام ثورة 23 يوليو 1952، ولد الأمير أحمد فؤاد، الابن الأول للملك فاروق، ملك مصر والسودان، من الزوجة الثانية له، الملكة ناريمان التى تزوجها بعد إخفاق زوجته الأولى الملكة فريدة فى إنجاب ولى عهد للعرش، وفى ليلة الـ16 من يناير للعام نفسه، دوت فى ليل القاهرة 101 طلقة، احتفالًا بمولد ولى العهد، ومُنح الطبيب الذى أشرف على عملية الولادة لقب «الباشوية»، كما صدرت الأوامر الملكية للدعوة للأمير الصغير على المنابر.
لكن الاضطرابات بالبلاد سرعان ما اشتعلت عقب 10 أيام فقط من ولادته، حيث اشتعلت أحداث المقاومة الشعبية فى الإسماعيلية ضد الانجليز، وتبع ذلك حريق القاهرة، وقيام ثورة الضباط الأحرار التى أجبرت الملك فاروق على مغادرة البلاد على سطح «المحروسة»، مع السماح للأمير فؤاد بالاستمرار ملكًا تحت الوصاية، لحين إعلان قيام الجمهورية فى 18 يونيو 1953.
ورغم محاولات طمس كل ما له علاقة بالنظام الملكى، من قبل النظام الجمهورى الجديد، وتأييد الشعب لتلك الخطوة، فإن الملك فؤاد كان قد ذكر فى حوار سابق له نشر بجريدة «سيدتى»، أن الرئيس جمال عبدالناصر أشرف بنفسه على استصدار شهادة ميلاد له، تثبت جنسيته المصرية، بعد ما عاناه بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية له.
وقد كان للرئيس السادات موقف آخر مع الملك فؤاد، حيث أمر الرئيس الراحل بإصدار جواز سفر للملك الشاب، يثبت فيه جنسيته المصرية، عقب إسهام الأخير فى المجهود الحربى بمبلغ بسيط، كما سمح «السادات» للملك فؤاد بنقل رفات والده إلى مسجد الرفاعى، حيث يدفن عدد من أفراد العائلة العلوية. بعدها سافر الملك الطفل إلى سويسرا، حيث عاش هناك، وتزوج من فرنسية يهودية، حملت اسم الملكة فضيلة، وأنجبت له ثلاثة أبناء، وقد قالت الملكة فريال فى حوار سابق لها مع الكاتب أحمد المسلمانى إن زواج «فؤاد» من «فضيلة» أنهى كل احتمالات مشاركة الأمير فى الحياة السياسية بمصر.
ورغم حصول الملك فؤاد على درجة علمية فى العلوم السياسية من جامعة جنيف، فإنه لم ينخرط فى العمل السياسى، وقد ذكر فى أكثر من حديث له أنه على يقين بأن الحكم الملكى فى مصر كان مرحلة وانتهت، وإن ظل يدافع باستماتة عن فترة حكم والده، وينفى كل ما أشيع عن إسراف الملك فاروق وفساد حاشيته، ويدلل على ذلك بأن إنجلترا كانت مديونة لمصر، بعد الإطاحة بالعائلة العلوية من الحكم. فيما سعى عدد من أفراد الأسرة الملكية إلى تدشين تحالف عقب قيام ثورة 25 يناير وعزل الرئيس محمد حسنى مبارك، وكان التحالف يهدف لإقامة مشروع سياسى يدعو لنظام ملكى دستورى فى مصر، لكن استحالة عودة النظام الملكى، إضافة إلى رفض ورثة الطبقة الارستقراطية فى مصر لذلك التحالف أدى إلى تلاشى الفكرة.