فى الحوار الأخير الذى أجراه الرئيس السيسى مع المثقفين استهل المفكر الكبير جلال أمين حديثه عن مايراه من هموم وأزمات يتعرض لها الوطن قائلا: "فى البدء كان الاقتصاد" ويبدو أن المهندس شريف إسماعيل عمل بهذه النصيحة أثناء صياغة بيان الحكومة قبل عرضه على مجلس النواب لكنه أعاد تعديلها ليأتى منهج البيان على النحو التالى: "البدء كان الأمن القومى وفى المنتصف والمنتهى يأتى الاقتصاد وما يدعمه أما ما دون ذلك مهما بلغت أهميته فيمكن المرور عليه عرضا دون الاستغراق فى التفاصيل باعتبار أن هذه هى حسابات اللحظة الحالية ورهاناتها، أمورا ثانوية".
هذا المنطق أدى فى كثير من الأحيان إلى عرض قضايا مهمة على نحو مبتسر ومخل، والصمت عن قضايا أخرى واستعراض نوعية أخرى من القضايا فى مواضع غير ملائمة لها ووضع حلول لها أشبه بالمسكنات التى ربما تخفف الألم لكنها لا تعالج المرض.
بشكل مختصر حدد البيان 7 مبادئ أساسية، قال إنها ستحكم عمل برنامج الحكومة وهى على الترتيب: أولا.. الحفاظ على الأمن القومى المصرى، ثانيا.. ترسيخ البنية الديمقراطية، ثالثا.. تبنى رؤية للتنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة جغرافيا، رابعا.. ترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية، خامسا.. تطوير البنية الأساسية الداعمة للنشاط الاقتصادى والتنافسية، سادسا.. الإسراع فى تطبيق الإصلاح الإدارى سابعا.. تعزيز دور مصر الرائد إقليميا.
سبق تحديد هذه المحاور ديباجة عن التحديات التى تواجه مصر لم تختلف كثيرا عما كانت تفعله الحكومات السابقة لثورة يناير فى مواقف مشابهة لاسيما الإشارة إلى أزمة الزيادة السكانية التى تؤدى إلى عدم القدر على تطوير الأداء الحكومى والتأكيد على أن معدلات الزيادة السكانية فى مصر خلال السنوات الـ5 الأخيرة بلغت 2,6% أى ما يعادل –بحسب البيان- 4 أضعاف معدل الزيادة فى دولة مثل الصين
الأمر اللافت فى الديباجة التمهيدية للبيان الحرص الشديد على استدعاء الأوضاع الاقتصادية لمصر قبل ثورة يناير ومقارنتها بما هو عليه الحال بشكل تكرر إلى حد قد يبعث برسالة إلى المواطن مفادها أن هذا ما جنته الثورة على مصر، ولم يراع البيان الإشارة أثناء الاستدعاءات المتكررة لبيانات مصر الاقتصادية ما قبل ثورة يناير إلى أن النظام السياسى كان يعانى أزمة عدالة فى التوزيع أدت فى النهاية إلى انهياره
من حيث الشكل فأن تصدير محور "الحفاظ على الأمن القومى" فى المرتبة الأولى يعكس أن هذه بالفعل هى أولوية المرحلة وأن العامل الأمنى بالنظر إلى خطر جماعات العنف الذى يهدد البلاد يفوق غيره من العوامل، لكن هذا لا ينسحب على ترتيب باقى المحاور فمثلا لا يعنى وضع محور ترسيخ البنية الديمقراطية فى المرتبة الثانية أنه بالفعل يحتل المرتبة الثانية من حيث الأولويات لدى الحكومة لأن ما تضمنه لا يعكس ذلك على الإطلاق.
أما من حيث المضمون فأن الملاحظات عن القضايا الغائبة أو المبتسرة أو التى تم علاجها بغير الطريق الملائم فى البرنامج يمكن عرضها كما يلى
قضية سد النهضة: رغم أن البرنامج وضع الحفاظ على الأمن القومى فى صدارة اهتمامات الحكومة، لكن كان هناك حرص على عدم ذكر أزمة سد النهضة وحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل إلا فى مواضع قليلة جدا من البرنامج يمكن حصرها فى البند الأخير من المحور الأول عندما تحدث عن "عدم المساس بحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل" والنقطة الثالثة من المحور السابع والأخير الخاص بدور مصر الرائد على الصعيدين الإقليمى والدولى عندما تحدث عن "مواصلة جهود تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدوليين بشأن أثار مشروع سد النهضة على دولتى المصب ووضع المسارات البديلة للتحرك" وفى المرتين كان الكلام إنشائيا يفتقد إلى الحلول المحددة وهو ما يشير إلى أن الحكومة على ما يبدو ليس لديها ما تقوله للبرلمان عن هذه القضية.
الديمقراطية المبتسرة: اختصرت الحكومة ترسيخ ماوصفته بـ"البنية الديمقراطية" فى إجراء انتخابات المحليات خلال الربع الأول من عام 2017، والتحول نحو تطبيق اللامركزية وقطوير البنية المعلوماتية لمجلس النواب والتزامها بما جاء فى الدستور بالنسبة للصحافة والإعلام ورغم أهمية القضايا السابقة لكنها ليست هى العقبات الحقيقية التى تواجه الديمقراطية فى مصر فالانتقادات التى يواجهها المسار الحالى داخليا أو خارجيا تشير إلى أزمات تتعلق بحقوق الإنسان وبمناخ المنافسة والتعددية السياسية وضمان حياد أجهزة الدولة فى العملية الانتخابية وعدم تدخل الأجهزة الأمنية فى الحياة السياسية كل هذه الانتقادات وغيرها-بفرض صحتها أو عدم صحتها- لم يتعرض لها البيان أثناء حديثه عن الديمقراطية.
التزامات الإنفاق الدستورية: تنص المادة 238 من الدستور على أنه: "تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومى على التعليم، والتعليم العالى، والصحة، والبحث العلمى المقررة فى هذا الدستور تدريجيا اعتبارا من تاريخ العمل به على أن تلتزم به كاملا فى موازنة الدولة للسنة المالية2017/2016.
وتلتزم الدولة بمد التعليم الإلزامى حتى تمام المرحلة الثانوية بطريقة تدريجية تكتمل فى العام الدراسى 2017/2016".
وفقا للنص السابق فإن الحكومة من المفترض أن تلتزم بدءا من هذا العام بنسب الإنفاق على التعليم والتعليم العالى والصحة والبحث العلمى المبينة فى مواد الدستور وعلى الرغم من الالتزامات التى وردت فى البيان بشأن المشاريع المتعلقة بهذه المجالات لكن خلال الـ79 صفحة لم يشر إطلاقا إلى هذه النسب التى تصل إلى 10% من الناتج القومى الإجمالى
قضايا هامشية: تعامل البرنامج مع قضايا المرور والثقافة والخطاب الدينى باعتبارها قضايا هامشية لم يتعرض لها بشكل تفصيلى ولم يضع خطة عمل واضحة بشأن علاج أزماتها فاختصر الخطاب الدينى بالعمل على إنشاء موسوعة دينية علمية للرد على الفكر المتطرف والتكفيرى واعتبر أن استخدام الأساليب التكنولوجية المتطورة كفيل بإنهاء أزمة المرور رغم أنه لم يذكر ما هى هذه الأساليب واعتبر أن البدء فى إنشاء 125 قصرا للثقافة بتكلفة 250 مليون جنيه هو غاية تطوير المنتج الثقافى رغم أنه لم يحدد متى سيتم الانتهاء منها.