توقف الثائر العالمى، الأرجنتينى الأصل «جيفارا»، ثلاثة أيام، فى القاهرة بدأت فى 19 يناير 1956، حسبما يؤكد الكاتب العراقى «عبدالحسين شعلان» فى كتابه «كوبا الحلم الغامض»، كان قادما من كوبا التى كان من قيادات ثورتها عام 1959 مع رفيقه فيدل كاسترو، وبعد نجاح الثورة منحه كاسترو الجنسية الكوبية، وعينه وزيرا وسفيرا للثورة.
كان فى طريقه للجزائر.. ووفقا لشعلان: «كان وقتها يدير مجموعة خلايا لقوى تحررية أفريقية من قاعدة فى الجزائر ودار السلام «تنزانيا» إضافة إلى القاهرة».. يذكر «شعلان» أن عبدالناصر شعر بأن جيفارا كان حزينا ومهموما فطلب منه أن يفضى إليه بمكنونات قلبه، فقال جيفارا إنه متجه إلى الجزائر، وبعد عودته سيصارحه ويفضى إليه بهمومه».. بقى فى المنطقة ثلاثة أشهر حسبما يذكر الزعيم الجزائرى أحمد بن بيلا فى مقاله «هكذا عرفت تشى».
يقول «شعلان»: «عاد جيفارا إلى مصر فعلا يوم 2 مارس- مثل هذا اليوم- 1965، وكان عبدالناصر اطلع على خطابه فى الجزائر يوم 24 فبراير 1965، وهو «الخطاب المشحون بالهم والمسؤولية والقلق الذى حمله على كاهله، إزاء مستقبل «الحركة الثورية وآفاق نضالها».. كانت الزيارة مجالا لمناقشات واسعة وعميقة بين جيفارا وعبدالناصر، يكشف عنها محمد حسنين هيكل فى كتابه «عبدالناصر والعالم»، مؤكدا: «كان عبدالناصر يحب جيفارا، ويشعر بميل عاطفى خاص نحو هذا الزعيم الكوبى».. خلال هذه الزيارة زار جيفارا قرى ومدن مصرية، حث تصادفت مع قيام عبدالناصر بخوض حملة لتجديد فترة رئاسته للجمهورية، فكان يجول فى المدن والأرياف ملقيا الخطب».. زار أسوان وتفقد بناء مشروع السد العالى، وقرية الزنكلون بمحافظة الشرقية، وشبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية.
كانت هناك زيارة أولى له لمصر فى يونيو 1959، حسبما يذكر هيكل فى «عبدالناصر والعالم»، مضيفا: «وصل فى زيارة لمدة خمسة عشر يوما لدراسة تجربة الإصلاح الزراعى فى مصر، وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها عبدالناصر، وفى هذا اللقاء روى لعبدالناصر أنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب والنكسات، وهو يقود حرب العصابات فى قمم التلال الكوبية فى سنة 1956، كان يستمد كثيرا من الشجاعة من الطريقة التى صمدت بها مصر للعدوان الثلاثى البريطانى- الفرنسى- الإسرائيلى، وقال إن عبدالناصر كان مصدر قورة روحية وأدبية لرجاله».
صاحبت زيارة 2 مارس 1965، تطورات مهمة عند جيفارا، ففيما كانت الثورة العالمية تشغله، كان يرى أن الاتحاد السوفيتى يتقاعس فى مهمته لمساندتها، وفى 24 فبراير 1965 عبر عن هذا المعنى بوضوح أمام ندوة للتضامن الأفريقى الآسيوى تستضيفها الجزائر فى الفترة ما بين 22 و27 فبراير، وألقى خطابه باسم الوفد الكوبى، وانتقد الاتحاد السوفيتى تلميحا، خاصة بعد عودته من زيارة إلى موسكو ولقائه بالرئيس «بريجنيف» سكرتير الحزب الشيوعى السوفيتى، وعدم اقتناعه بجوابه بخصوص ضرورة منح السلاح مجانا إلى ثوار العالم من أجل محاربة الامبريالية».
اشتهر هذا الخطاب فى الأدبيات الثورية بـ«خطاب الجزائر»، وقال جيفارا فيه: «يجب معالجة وجه التحرر بالسلاح من قوة سياسية غاشمة، تبعا لقواعد الأممية البرولتيارية، فإذا كان من السخف التفكير بأن مدير مشروع بلد اشتراكى محارب، يمكن أن يتردد فى إرسال الدبابات التى ينتجها إلى جبهة لا تستطيع تقديم ضمانات للدفع، فلا يجب أن يبدو أقل سخافة التثبت من ملاءمة شعب، يكافح من أجل أن يحتاج إلى أسلحة للدفاع عن حريته».. يؤكد «شعلان»: «احتجت موسكو على ذلك الخطاب رسميا لدى كوبا، وجرى حديث فى السر والعلن عن ضغوط موسكو على الرئيس الكوبى «كاسترو»، لاسيما وأن كوبا كانت بحاجة إلى المساعدات السوفيتية».. كان هذا الخطاب تعبيرا عن التناقض بين حلمه وبين الواقع، ويذكر شعلان: «لعل التناقض الأكبر كان بينه وبين نفسه، فبالرغم من آماله الكبيرة كان ثمة تشاؤم قد بدأ يتسلل إليه، لم يطرده إلا بشحذ العزيمة والإرادة بديلا عن الواقع، وهو ماعبر عنه فى حديثه مع عبدالناصر».
بدأ حديثهما يوم 3 مارس 1965 وهو اليوم الثانى من زيارته جيفارا.. يؤكد هيكل: «استمرت المناقشات ليال عدة فى بيت الرئيس».. تناولت قضايا الثورة العالمية، والموت والحياة، وأحزان جيفارا وعلاقته بكاسترو.. قال جيفارا: «أرى أنه يجب أن نفعل المزيد من أجل الثورة فى العالم، وفكرت فى أنه يتعين علىّ أن أتوجه إلى أفريقيا لأفعل شيئا ما، إن لى خبرتى وتجربتى فى النشاطات الثورية وفى التنظيم الثورى وأعتقد أن الأسباب مهيأة فى أفريقيا».. رد عليه عبدالناصر: «إنك تدهشنى ماذا حدث لكل ما كنت تفعله فى كوبا؟. هل تخاصمت مع كاسترو؟. لاأريد أن أتدخل لكنك إذا كنت تريد أن تصبح «طرزانا» ثانيا، رجلا أبيض يقحم نفسه بين الزنوج ليقودهم ويحميهم، فإن ذلك لن يفلح وضحك جيفارا من فكرة تحوله إلى «طرزان»، واستمرت المناقشات العميقة بينهما، فماذا جاء فيها؟