توافد المعزون إلى مسكن عبدالرحمن الخميسى فى شارع نوبار بالقاهرة يوم 2 إبريل - مثل هذا اليوم -1987، وهو اليوم التالى لدفنه فى المنصورة.. «راجع - ذات يوم - 1 إبريل 2019».
يتذكر ابنه الأكبر الكاتب والقاص الدكتور أحمد الخميسى: «كان الكاتبان العظيمان، محمود السعدنى، ومحمد عودة، فى مقدمة المعزين، وكانا من أقرب أصدقاء الخميسى».. ويدلل يوسف الشريف فى كتابه «القديس الصعلوك»، على عمق هذه العلاقة، بتأكيده أن مغادرة الخميسى لمصر عام 1972، وعزمه عدم العودة إليها، عرفه ثلاثة فقط هم «السعدنى وعودة، وهو».. كان مشهدهما فى العزاء يفصح عن تاريخهما مع الفقيد، بمعاناته وحلمه وشقائه وإرادته منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، حتى أصبحوا منارات لأجيال لاحقة ومازالت تشع بضوئها.. فكيف بدأت علاقتهم؟
فى ثلاثينيات القرن الماضى بدأت علاقة «عودة» و«الخميسى».. كانا يبحثان عن ذاتهما فى القاهرة، وحسب «الشريف»، كانا يترددان على مقهى الفيشاوى الشهير فى الحسين.. كان الخميسى فى القاهرة منذ سنوات قادما من منية النصر بالدقهلية، وجاءها عودة من فاقوس بالشرقية، بعد اعتزاله المحاماة التى مارسها فى بلدته.. يتذكر الخميسى للشريف، أنه عندما شاهد عودة على المقهى ظنه من ظواهر المقهى الغريبة، لأنه يبدو شابا أجنبيا متورد البشرة يغطى رأسه ببريه، ويرتدى جاكتة اسكوتش لا يغيرها، ويتأبط كتبا ومجلات إفرنجية، ويشترى كتبا عربية وتراثية، وظن الخميسى أنه أمام مستشرق هولندى أو أيرلندى.
قرر الخميسى التعرف عليه، وبينما يغادر عودة المقهى نهاية ليلة، عاجله بابتسامة: «اتفضل آنسنا شوية ياخواجة»، ضحك عودة فى خجل وقال: «أنا مش خواجة.. أنا مصرى زيك.. ثانيا.. ميعاد النوم جه ولازم أروح قبل النهار ما يطلع»، قال الخميسى: «أنا كمان مروح.. خدنى معاك»، وفى طريقهما للعتبة عبر شارع الموسكى تحدثا فى السياسة والفكر والثقافة، وتحير الخميسى من تهرب عودة من الإجابة عن أسئلة حول أوضاعه الاجتماعية، ولما وصلا إلى ميدان العتبة، سأل عودة: حضرتك ساكن فين؟.. رد الخميسى: «فى عابدين».. مد عودة يده مصافحا وقال فى كبرياء وحسم: «أنا فى الزمالك».. وبينما اتجه الخميسى إلى شارع عبد العزيز فى الطريق لعابدين اتجه عودة إلى شارع فؤاد فى الطريق للزمالك.
كان الاثنان يخدعان بعضهما، فبعد ساعة عاد الخميسى «العاطل والضائع» إلى الفيشاوى، وبينما يهم لأخذ ترابيزة يستلقى عليها، وجد عودة يغط فى سبات عميق على مقعد ويغطى وجهه بالبيريه، فربت على كتفه..استيقظ عودة مذعورا: جرى إيه؟ فيه إيه؟.. رد الخميسى: «لا مفيش حاجة.. دى بس صاحبة شقة الزمالك بتخبط على الباب عاوزة الأجرة»، ضحكا كثيرا على حالهما الذى كان من بعضه.. وبدأت صداقة العمر.
أما علاقة الخميسى بالسعدنى، فبدأت شتاء 1947 بمقهى عبد الله بالجيزة مع أدباء كبار، أنور المعداوى، والدكتور عبدالقادر القط، زكريا الحجاوى، والشاعر محمود حسن إسماعيل، الشيخ قطامش المحامى الشرعى، والشاعر عبد الحميد الديب، حسبما يذكر السعدنى فى مقدمته لكتاب «القديس الصعلوك»..ويلخص حياة الخميسى، فى مقاله «فنان وحيد انتصر بلا سلاح»، مجلة صباح الخير - إبريل 1987»: «قصة حياة الخميسى من أعجب وأغرب قصص الفنانيين والشعراء فى تاريخ مصر، هو ابن سيبويه المصرى الذى كان يركب حماره بالمقلوب، ويطوف فى الأسواق ويهجو الشعراء ويرميهم بأشنع التهم.. وهو عبد الله نديم لو كانت الظروف مناسبة والريح مواتية، وهو بيرم التونسى لوكانت القضية فى زمنه هى المحتل المستعمر والاستقلال التام أوالموت الزؤام.. وستظل أبرز حسناته اهتمامه بالمواهب الصاعدة.. فهو الذى اكتشف سعاد حسنى، ووقف إلى جانب عادل إمام، وأخذ بيد يوسف إدريس وعبد الرحمن شوقى وعشرات آخرين اختلفت حظوظهم، وهناك عشرات الأغنيات التى رددها الشعب المصرى فى فترة الثلاثينيات وبداية الأربعينيات كانت من تأليفه، وإن أذيعت بأسماء مؤلفين آخرين.. أحببت الخميسى منذ أول لقاء، كان نموذجا للفنان الذى رسمته فى خيالى: كان شديد الزهو، شديد البساطة، عظيم الكرم، دائم الفلس، ويمشى دائما فى الطريق يتبعه أكثر من شخص يلازمونه كظله، ويطيعون إشارته، وكان حريصا على أن يرتدى ملابس أنيقة وغالية الثمن.. كان فى مظهره وسلوكه يختلف عمن عرفت من الشعراء والأدباء والفنانين.. فى ذلك الوقت كان واحدا من أشهر الكتاب فى مصر على الإطلاق، إن لم يكن أشهرهم، كان ينشر قصصا مسلسة فى جريدة المصرى، واستطاع بقصصه أن يرفع توزيع الجريدة إلى ما فوق المائة ألف نسخة، وعندما دخل معركة مع محمد التابعى، وكان التابعى عميد كتاب الصحافة المصرية وقتذاك، استطاع أن يقهره وينتصر عليه».
يضيف السعدنى: بالرغم من كل الفنون التى مارسها، إلا أن الذى سيبقى منه هو شعره العظيم القديم الذى كتبه قبل أن يتحول إلى شاعر واقعى، وهو فى هذا يبلغ قمما عالية ويقف مع على محمود طه وإبراهيم ناجى وأحمد فتحى وغيرهم من شعراء هذه المرحلة.. وسيبقى منه أيضا دور الشيخ يوسف المتميز فى فيلم «الأرض».. وإسماعيل بيه فى مسرحية «عزبة بنايوتى»، وتحفته الشعبية الرائعة «حسن ونعمية»، ثم تبقى قصة حياته نفسها، قصة الفنان الذى تحاصره ظروف أقوى من إرادته وأعتى من طاقته لكنه يقهرها جميعا».
وغدا نستكمل.