- طالبت بحق المرأة دون أن تعادى الرجل أو تحقر من دور «ست البيت»
ارتبط اسمها ارتباطا وثيقا بمعارك صدمت المجتمع، من خلع الحجاب لحق المرأة فى التعلم وسن قانون تحدد سن الزواج للفتيات، وغيرها من الحقوق المكتسبة التى استطاعت بطول النفس والصبر والمثابرة انتزاعها من مجتمع يعتبر أن مجرد خروج المرأة للتسوق جريمة، والمدهش فى رحلتها الطويلة ومعاركها التى انتهت جميعها بالنصر هو أنها معارك صادقة تماما ولدت من رحم البحث عن الحق والجمال، فلو تعمقت فى قراءة كتاب مذكرات المناضلة هدى شعراوى، ستجد أنها طفلة عادية جدا، فقط أرادت مزيدا من الاهتمام والعلم والمعرفة، ومزيدا من الحرية والرحمة، ووسط سعيها وراء ما أرادت اصطدمت بالمجتمع والعادات والتقاليد وثارات ضد الثوابت، وقد بدأت هدى شعراوى وفقا لمذكراتها هذه الثورة بشعورها بالغيرة من أخيها الأصغر سنا، هذا الشعور الذى تملك قلبها وهى طفلة تكبره بأعوام، بينما هو الصغير، يحصل على حب أكثر ومزيد من الحرية، ولم تخجل هدى شعراوى، وهى تقول فى مذكراتها: «كنت أحب والدتى الكبيرة، مشيرة إلى جدتها عن والدتها، وكنت أرتاح معها أكثر من أى شخص آخر، وكانت تجمعنا صفات مشتركة، وذات يوم طلبت منها أن تفسر لى حكمة تفضيل شقيقى على، فأجابنتى بابتسامتها الحلوة: ألم تشعرى الآن بالفارق الذى بينك وبينه، فأجابت الطفلة هدى شعراوى نعم، فأنا الكبرى وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبى أوفر منه ومركزى أعلى من مركزه، فقالت الجدة، ولكنك فتاة وهو غلام، وليس هذا فحسب، بل أنت لست الفتاة الوحيدة وهو الولد الوحيد الذى عليه عمار الدار، أنت عندما تتزوجين ستذهبنى إلى منزل الزوجية، وستحملى اسم زوجك، أما هو فسيحيى اسم أبيه ويفتح بيته، هذا الجواب الصريح المعقول، رد إلى رشدى، ولم أتألم من سماعه بل نزل على قلبى بردا وسلاما، وزادنى حبٍّا لأخى الذى سيخلد اسم أبى الحبيب ويحل محله فى العائلة.
هذه الغيرة الحميدة التى اشتعلت فى قلبها تجاه أخوها دفعها للجهاد بحثا عن مزيد من الاهتمام الحقوق، هى غارت مما يحصل عليه الذكر حتى لو كان أخ، لكنها لم تحقد عليه أو تكرهه، وهو ما يتضح جليا فى حديثها عنه فى المذكرات، فقد كان هذا الأخ هو المفضل إليها وكان لها سندا وعونا طوال الوقت وجمعتهما علاقة قوية جدا، لكن كل ما كانت تحصل عليه حتى لو كان اهتماما زائدا نتيجة المرض، فذات مرة قالت لها جدتها: إن أخوها ضغيف البنية لذا يخاف على صحته، أما أنت قوية سليمة الصحة، ولم تخجل هدى شعراوى من التعليق على هذا الكلام فى مذكراتها قائلة: «تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه فى حب والدتى، وتصادف أن تفشت الحمى فى البلد، وكنت أنا أول من يصاب بها فى المنزل، ففرحت بالمرض ولازمت الفراش وتأثرت كثيرا وكنت فى فرحة كبيرة باهتمام والدتى بمرضى، وأمرت فى الحال بإحضار طبيب العائلة، لكن سرعان ما انتقلت الحمى إلى أخى فتبدل الحال وانصاب الاهتمام عليه، حيث قام المنزل على قدم وساق وبدل طبيب العائلة الذى كان يعالجنى امتلأ البيت بالأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخى، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إلى، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشى، وقد أثر فى ذلك كثيرا، وارتفعت الحمى من فرط تأثرى، ولكن أحدا لم يهتم بأمرى إلا بعد أن ازدادت حالتى سوءًا.
لم تمرهذه التجربة مرور الكرام على السيدة هدى شعراوى، فقد زادتها انكماشا وغيرة من أخيها وحقدا على كل من حولها، فتوجهت لحديقتى التى كنت أقضى فيها معظم أوقات الفراغ، وكذلك أمضى فيها وقت تلقى العلوم من مدرسى اللغات العربية والتركية والفرنسية، وهنا تدخل شعراوى فى معركة جديدة ناتجة عن شغفها باللغة العربية، فطلبت من معلمها أن يعلمها قواعد النحو، فقال لها بكل سرور، وفى اليوم التالى أتى وتحت إبطه كتاب النحو وهنا أوقفه «سعيد أغا» وهو المربى الخاص بهدى شعراوى وأخيها ومرافقهما الدائم، وسأله بعظمة: ما هذا الكتاب قال: كتاب النحو، طلبته الآنسة نور الهدى لتتعلم القواعد، فقهقه الآغا وقال له: خذ كتابك، لا لزوم للنحو، لأنها لن تكون محامية يوما من الأيام، وهنا تعلق شعراوى فى الفصل الثالث من مذكراتها: «أثرت هذه الصدمة الجديدة فى نفسى تأثيرا شديدا، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبى وشعرت بالملل حتى أهملت دروسى، وصرت أكره أنوثتى، لأنها حرمتنى متعة التعليم وممارسة الحياة الرياضية التى كنت أحبها، كما كانت تحول بعد ذلك بينى وبين الحرية التى كنت أعشقها.
لم تستسلم هدى شعراوى لهذا اليأس وأخذت فى البحث عن شىء آخر تحبه، وبالصدفة وقتها نصح الأطباء بشراء مهر صغير لأخوها ليتعلم ركوب الخيل، فطلبت واحدا هى الأخرى، وبالطبع رفضوا وقالوا إن ركوب الخيل للرجال، لكنها لم تستسلم، وقالت لهم إن جارتها ابنة الضابط تركب الخيل، وهنا لجأت الأم لحيلة وهى أن تخيرها بين شراء المهر أو شراء بيانو، وهو الطلب الذى كانت تطلبه من والدتها كثيرا، وبالطبع فضلت الصغيرة البيانو، لكنها لم تيأس بل فكرت بإيجابية هذه المرة قائلة فى مذكراتها: «أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخى كلما أردت».
هكذا سارت طفولتها من معركة بريئة لا تبتغى منها إلا العلم والبهجة والرقى، لكن المعركة الأكبر كانت فى انتظارها، وهى قصة زوارجها من ابن عمها التى تمت دون رضاها، وبشبه خديعة لها، فذات يوم وجدت البيت ينقلب رأسا على عقب وتجهيزات فى كل مكان تشبه تجهيزات العرائس وعندما سألتهم عن السبب قالوا لها إنه استعداد لعرس بنت أحد البشوات القريبين وأخبروها أنهم سيذهبون لتمضية الوقت فى منزل بحلوان، «وكانت حلوان وقتها مكانا يقصدونه للاستجمام والراحة»، ففرحت كثيرا وذهبت العائلة إلى هناك ثم فوجئت بإحدى صديقات والدتها تلبسها طرحة على رأسها، فشعرت بالأمر وتوجهت لغرفتها وهى تبكى، فذهب وراءها سعيد أغا قائلا لها: ابن عمتك سيتزوجك فمن توكلين، وتقول: هنا انفجرت فى البكاء لدرجة أننى سقطت على الأرض، وحدث جرح فى ساقى، فقال لها أغا: إن والدها لو كان حيا لأراد ذلك، فردت أفعلوا ما تريدون.
بعد أيام من هذه الواقعة عادوا جميعا للمنزل لإقامة العرس على ابنة عمتها الذى كان يكبرها سننا بعشرات السنوات، وكان متزوجا من أخرى وله منها ثلاث بنات، قد تكن قريبات فى أعمارهن من عمر عروسته هدى شعراوى، وهنا تتذكر هدى التى كانت طفلة وقتها لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها أنها فرحت بالتجهيزات وزينة الحديقة والأنوار التى ملأت المنزل والمجوهرات التى تزينت بها: فرحت ظنا منها أن الأمر سيظل هكذا لكنها لخصت حالتها فى جملة قالتها فى مذكراتها: «فى اليوم التالى للزفاف وقفت فى الشرفة أنظر إلى الحديقة التى أقيم عليها العرس وكانت مزينة فوجدتها مهدمة تماما، أشجارها سقطت، وهنا أدركت أن حياتى قد سقطت أيضا مثل حديقتى الصغيرة التى كنت أراعاها بنفسى».
كل هذه الذكريات هى ما دفعت شعراوى لإعلان الجهاد والمطالبة فيما بعد بقوانين لتحديد سن الزواج وأخرى لتعلم الفتيات، وبناء دور رعاية للأطفال تشرف عليها النساء، وكان ذلك فى مراحل متقدمة من عمرها بعد إنشائها الاتحاد النسائى المصرى وتشكيل لجنة الوفد للسيدات، وخلال هذه الفترة شهدت شعراوى الكثير، فبين هذه الفترة وبداية عملها بالحياة العامة والسياسة مرت بتجارب مهمة وأكثرها أهمية انفصالها عن زوجها فترة كبيرة بعد عودته لزوجته الأولى دون علمها، وفرحت هدى بهذا الخبر لأنها تعيش معه راضية، فانفصلت عنه دون طلاق، وتعتبر هذه الفترة هى بداية النضال الحقيقى لها، وتذكر هدى شعراوى فى مذكراتها أنها فى إحدى المرات كانت فى الإسكندرية، فقررت أن تخرج للمحلات لشراء لوازمها بنفسها، وبالرغم من تذمر سعيد أغا، فإنها أصرت وكانت هذه التجربة هى الأولى من نوعها وتعتبر خروجا على التقاليد، بل اعتبرها البعض خروجا على الشريعة، لكنهم فى النهاية وافقوا بعد أن ألزموها باصطحاب سعيد أغا ووصيفاتها، كما ألزموها بالغطاء من الرأس للقدم، بحيث لا يظهر منها شىء حتى ملابسها تغطيها بإسدال، مضيفة فى المذكرات أن الموظفين فى المحل اندهشوا تماما، وقد وصفت هدى شعراوى هذه التجربة فى مذكراتها بالمريرة لكنها أصرت على تكرارها، فكيف تعيش المرأة دون حقها فى شراء ما يلزمها بنفسها؟
كانت الزيارات للمحلات بداية نضال هدى شعراوى، فخلال الطريق كانت تتحدث مع صديقاتها اللاتى كن يذهبن معها عن طرق التوصل لحال المرأة والترفيه عنها من خلال ممارسة الرياضة البدنية والخوض فى الحياة الاجتماعية ودراسة الفنون والأدب، وقررن البدء بإعداد ملعب للتنس فى حديقة مصطفى رياض باشا، وخلال هذه الفترة ظهر كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة»، وتقول شعراوى فى مذكراتها: إن هذا الكتاب نبه الأذهان إلى ضرورة خلق نهضة عامة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها، وكان بمثابة الحجر الأول فى بناء الرأى العام الذى قابله المجتمع بعاصفة من الاستنكار، لدرجة أن السيدات أنفسهن استنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه، لأنها كانت تظهرهن في الثوب الحقيقى من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبريائهن، فكن بذلك يشبهن الجوارى عندما تعطى لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر.
توالت الأحداث بين ذلك فى حياة هدى شعراوى الخاصة والعامة، فقد عادت لزوجها بعد أعزام من الفراق وبعد ضغط كبير وإلحاح منه وتوسيطه للبعض حتى يعود لها، وبالفعل عادت لكنها كانت قد رسمت ملامح حياتها وحددت طريقها الذى لم تخرج عنه، وجاهدت مطالبة بالمزيد من الحقوق ولعل الأهم فى عودتها لزوجها هو إنجابها لولد وبنت منه، ومدى حبها لهما، وقالت المناضلة فى مذكراتها: إنها ذات يوم سألت نفسها لماذا لا تجيد الطهى ولا الحياكة مثل باقى النسوة، وبالفعل تعملت هذه الأمور التى رأت أنها مهمة لها كأم، ومن خلال هذا السرد يمكنك معرفة أنها لم تحقر من دور «ست البيت»، بل أخلصت له وأحبته ورأت أنه واجب مثل واجبها تجاه تحرير المرأة.
انتعشت فى هذه الفترة أنشطة النساء ومارسن العديد من الحقوق، فظهرت الأديبات وأسست النوادى للسيدات كما تشكلت لجنة الوفد للسيدات، وقامت الثورة وخرجت السيدات للمظاهرات حتى قررت هدى شعراوى القرار الأصعب والأكثر صداما فى المجتمع المصرى، وهو قرار خلع «البرقع»، أو خلع الحجاب كما هو معروف، والحقيقة أنها لم تذك هذه الواقعة كثيرا فى مذكراتها لأسباب تعلمها وحدها، لكن ربما رأت أن حصول المرأة على التعليم وحقها فى الاندماج فى الحياة الاجتماعية والسياسية وممارسة الرياضة أمور أهم من قضية خلعها للبرقع، واكتفت بذكرها للواقعة فى كلمات قالت فيها: «رفعنا النقاب أنا و«سيزا نبراوى»، وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو ظاهرا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً أبداً، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته عام 1921 أثناء استقبال المصريين لسعد زغلول، كما قالت: إن سعد زغلول أثنى عليها وأبدى إعجابه بما فعلته قائلا: «سررت عندما رأيتك بهذه الهيئة والحجاب الشرعى الذى قررتى ارتداؤه، وقد علقت فى مذكراتها على رحلتها الطويلة فى النضال للحصول على حرية المرأة وحقها قائلة: «لم أناضل لتحرير المرأة من قيود المجتمع بل ناضلت لتحرير الرجل من قيود المرأة الجاهلة».