قالت الباحثة الأمريكية المخضرمة، إليزابيث كوبز، مؤلفة كتاب "الإمبراطورية الأمريكية"، والزميلة بمؤسسة "هوفر" بجامعة ستانفورد، إن المرشح الأمريكى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة دونالد ترامب هز علاقات أمريكا مع الصديق والعدو على السواء .
جلافة وفظاظة
وأضافت كوبز، خلال مقال لها نشرته الوكالة الفرنسية للأنباء، أن ترامب يقول إنه لا يعنيه رأى العالم فيه فى شىء، متسائلة هل سبق أن أبدى أى مرشح رئاسى مثل هذه "الجلافة والفظاظة؟ وهل هذا يهم؟"، مشيرة إلى أن سوء السلوك نقيض الدبلوماسية، فهو يضعف التحالفات الدولية اللازمة للأمن المادى، غير أن ترامب ينتقص من قدر حلف شمال الأطلسى "الناتو"، والمعاهدات الثنائية الرئيسية مع حلفاء الولايات المتحدة فى آسيا وأمريكا اللاتينية.
وقالت الباحثة الأمريكية: "كما أن سوء السلوك يقوض الأمن الاقتصادى، فترامب يدافع عن الرسوم الجمركية ذاتها التى أدت إلى إفقار الجيران، وكانت سببا فى الكساد الكبير فى الثلاثينات وأطلقت شرارة الحرب العالمية الثانية".
وإلى نص المقال..
الأغرب أن ترامب يتلذذ بالإساءة للغير، وهذا سيجعل من الصعب عليه الحفاظ على الصداقات أو التعاون مع الحلفاء المعتزين باستقلالهم، والحساسين للإهانة، مثلما هى واشنطن.
إن ترامب يهين المكسيك بالتهديد ببناء جدار على امتداد حدودها مع الولايات المتحدة، وهو يسىء إلى فرنسا بإلقاء اللوم عليها فى مذبحتى (شارلى إبدو) وقاعة الحفلات الموسيقية، كما أنه يحقر سياسة ألمانيا فيما يتعلق بهجرة السوريين، ويهين بريطانيا بإطلاق وصف القوادين على المنتقدين فيها، ويزدرى السياسات التجارية اليابانية والصينية، واصفا إياها بأنها سلب ونهب، ويهين كل المسلمين أى ثلث سكان العالم، باقتراح منعهم من دخول الولايات المتحدة.
ولم تقبل الدول الأجنبية ازدراء ترامب بمثل الهوان الذى أبداه الخاسرون فى برنامجه لتلفزيون الواقع "المتدرب"، فيصف رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون، ترامب، المطور العقارى فى نيويورك، بأنه "مثير للانقسامات، وغير مفيد ومخطئ بكل بساطة"، أما السفير الفرنسى لدى الولايات المتحدة فيصف ترامب بأنه "من الجوارح"، ويقول إن تغريدته عن هجوم شارلى إبدو الوحشى، افتقرت "للكياسة الإنسانية"، ويرى كثيرون غيرهما أن ترامب مصدر تهديد للسلم.
وما كان هذا ليمثل أهمية لو أنه لا وجود للإرهاب العالمى والغموض الاقتصادى العالمى، وليس هذا هو عالم اليوم، واحتقار ترامب يغذى عداوات تهدد الأمريكيين وتسمم الصداقات التى تعتمد عليها واشنطن.
وقد حمتنا المؤسسات التى ساعدت الولايات المتحدة فى بنائها بعد الحرب العالمية الثانية من الحرب العالمية الثالثة، وتمثلت فى الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسى وغيرها الكثير، ولم يتطور الركود الكبير عام 2008 إلى كساد كبير آخر، لأن البنوك المركزية فى مختلف أنحاء العالم تآزرت على نقيض ما حدث فى الثلاثينات للحيلولة دون الانهيار الاقتصادى، وبدون المودة ستتوقف آلة التعاون.
ويشبه بعض المعلقين ترامب بالرئيس أندرو جاكسون الشعبوى الذى أشعل نار الغضب الشعبى ودعا الغوغاء بأحذيتهم الملوثة بالطين إلى البيت الأبيض، لكن التشبيه لا يستقيم فى العلاقات الخارجية، ففى عام 1828 الذى فاز فيه جاكسون بالرئاسة، لم يكن يوجد تلغراف أو هاتف أو تلفزيون أو إنترنت لنقل الأخبار على وجه السرعة، ولم يقدم جاكسون أى تعليق على الشئون الخارجية، ولم يكن أحد ليعرف أو ليهتم إذا كان قد فعل ذلك، وكدولة صاعدة ضعيفة لم يكن للولايات المتحدة حينئذ تأثير يذكر على المسرح العالمى.
ويمثل بارى إم. جولدووتر المرشح الجمهورى السابق للرئاسة وجها أفضل للمقارنة، ومثل ترامب سعى هذا السناتور من ولاية أريزونا بكل وقاحة للمشاكسة، فأعلن فى المؤتمر الوطنى للحزب الجمهورى عام 1964 أن "التطرف فى الدفاع عن الحرية ليس بآثم"، وصوت جولدووتر بالاعتراض على قانون الحريات المدنية لعام 1964 وعارض مساهمات الأمن الاجتماعى الإلزامية وأشاد بجمعية جون بيرش اليمينية المتطرفة، وفى الشئون الخارجية أثنى جولدووتر على "سياسة الوصول إلى حافة الهاوية" واقترح تفويض قائد حلف شمال الأطلسى فى استخدام الأسلحة النووية ونادى بقصف فيتنام "للقضاء على الحياة فيها". ورفض التعايش السلمى مع الاتحاد السوفيتى.
وفى عالم الستينات المترابط ترابطا وثيقا عندما كانت الولايات المتحدة تطمح لنيل القيادة الفعلية "للعالم الحر" أطلق ترشيح جولدووتر أجراس الإنذار على المستوى العالمى.
ووصف رئيس الوزراء السوفيتى نيكيتا خروشوف ترشيح جولدووتر بأنه "ظاهرة غريبة"، وقال معلق أكثر صراحة إن الروس "يشعرون بأنهم يجب أن يأخذوا حذرهم أكثر من أى وقت مضى."
وكان الحلفاء أكثر مباشرة، فقالت صحيفة ألمانية غربية فى مقال افتتاحى إن جولدووتر "أخطر على السلام العالمى من ماو تسى تونج"، وحذرت افتتاحية بريطانية من أنه إذا حاول جولدووتر "تطبيق سياساته فمن الممكن أن يتقوض التحالف الغربى برمته"، وعلقت صحيفة فرنسية قائلة إن السناتور "يصيبك بالقشعريرة".
ورحب الرئيس ليندون ب. جونسون بتحدى جولدووتر، فقد كان يعرف أن هزيمة هذا المتطرف من أريزونا ستكون أسهل من هزيمة أى مرشح آخر قد يدفع به الجمهوريون.
وأطلقت حملة جونسون الإعلان التلفزيونى المشين "ديزى" لطفلة صغيرة تحصى أوراق وردة وهى تقطفها ثم يتحول الأمر إلى عد عكسى لتفجير قنبلة نووية فوق رأسها، وبعدها يظهر جونسون وهو يقول "هذه هى المخاطر".
وخسر جولدووتر، ومنذ ذلك الحين لم يتسبب أى مرشح فى مثل هذا الجدل الدولى الصريح، ففى العادة يحجم الزعماء الأجانب عن التعليق على الانتخابات الأمريكية فى ضوء ما لديهم من آمال فى التعاون مع من سيقع عليه الاختيار.
وبمرور الوقت طور جولدووتر موقفا أقرب إلى تيار الوسط، واليوم يقف هو فى مكان ما بين ميت رومنى والسناتور راند بول فى الحزب الجمهورى ولو أنه انتخب لكانت سياساته أكثر معقولية من خطبه الرنانة.
والشىء نفسه قد يكون صحيحا بالنسبة لترامب الذى يتعهد بأن يكون متعقلا وهو فى المنصب، غير أن جولدووتر أحجم عن شن هجمات شخصية سواء على جنسيات أو أديان أو أفراد، وفاق ابن نيويورك ذلك القادم من أريزونا، فقد أضعف بالفعل الثقة فى أمريكا وزاد الخوف منها، وستعقد إعادة بناء الثقة أهداف السياسة الخارجية التى بدأ يكشف عنها بما فى ذلك إصلاح المؤسسات المهمة والاتفاقات.
وإذا انتخب ترامب فإنه سيواجه عداء فى كل حدود يعبرها، وقد وقع نصف مليون بريطانى بالفعل التماسا يطالب بمنعه من دخول البلاد، وفى أغلب الظن أن ترامب سيواجه مصاعب شديدة فى التفاوض مع الزعماء الأجانب بعد أن أبدى عدم احترامه لهم.
كذلك فإن المواطنين العاديين قد يجدون أنفسهم بالمثل فى وضع سىء، فالرئيس هو وجه الأمة المنتخب بحرية لتمثيل الأمريكيين كلهم، ومن المرجح أن انتخاب ترامب سيضع كل أمريكى يعمل فى الخارج أو يسافر للخارج فى وضع غير مريح، يطالبه فيه الآخرون بتفسير سبب اختيارنا لشخص يستخف بالكثيرين.
وربما كان الأهم من ذلك أن أكبر ما حققته أمريكا من نجاحات نتج عن قدرتها على إلهام الآخرين، فمنذ عام 1776 جعلت الولايات المتحدة الديمقراطية تبدو مغرية وجذابة، ونتيجة لذلك أصبح العالم أكثر استقرارا، أما العجرفة فتجعل ما فى الأمة من إغراء يبدو باهتا وتقوض الإيمان بالمستقبل المشترك للإنسانية.
من أبرز صور القرن العشرين صورة للأرض التقطها رواد الفضاء الأمريكيون من على سطح القمر، فقد كشفت الصورة عن كرة مرمرية زرقاء جميلة فى الفضاء الفسيح وذَكَّرَت كل الشعوب بأن هذا الكوكب ليس كبيرا حقا، إن الاستئناس بالغير مهم للأمن والرخاء، ومن اللافت للنظر أن ترامب لا يعير ذلك اهتماما.