كان سؤال «لماذا انتحر الشاعر أحمد عبيدة؟ مطروحا فى اليوم الثانى للفاجعة» 7 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1974».. كان على ألسنة الأوساط الأدبية والثقافية واليسارية، وفى قريته العمار الكبرى، طوخ، قليوبية.. فى الإجابات ظهرت حكايات.. ومن الواقع نطقت حقائق.. «راجع، ذات يوم 6 أغسطس 2019».
فاجأنى الشاعر عزت عامر صديق عبيدة المقرب باعتراف حين طرحت عليه سؤال: لماذا؟.. قال: «فكرتنى بحاجة مؤلمة.. كتبت رواية بطلها أحمد عبيدة، ثم أحرقتها، كنت فى مرحلة تحول فكرى.. كنت على أبواب الصوفية، لكن خلاص.. يا خسارة».. كان صوته يختلط بصوتى: «يا خسارة.. يا خسارة».
«عامر» النادم على حرق إبداعه بإرادته، كما حرق عبيدة نفسه بإرادته..سألته: «هل تتذكر شيئا منها؟».. أجاب: «أحمد شغلنى كتير، طيفه بيحضرلى ديما.. راويتى ملخصها، أننى حاولت أن أعرف لماذا انتحر، فلجأت لحيلة فنية وهى إنه مش عارف هو فين وعايز يتذكر.. يا ترى هو فى سجن شبين الكوم، أو فى الخانكة ويأخذ علاجا بالكهرباء، أو عند أخته «نفيسة»، ولما نزل من عندها وجد موكب السادات، فهتف ضده وقبضوا عليه وعلاجوه بالكهرباء، أو فى بلده العمار اللى بيعشقها، أو فى بلدتى «جنزور»، بركة السبع المنوفية، يلقى شعره أمام جمع حاشد، وقبض الأمن عليه، لأنه بيهاجم «ثورة التصحيح» التى قبض فيها السادات على خصومه من رجال عبد الناصر ووضعهم فى السجن فى 15 مايو 1971.
يشرح عامر علاقة هذه الأمكنة بعبيدة وانتحاره، غير أنه توقف أمام سر «جنزور»، وكان آواخر 1972 أوائل 1973.. يقول: «أعتقد أنها كانت سببا مباشرا فى انهياره.. كنا نزور الجامعات لعمل ندوات شعرية، أنا وهو ومحمد سيف وفؤاد قاعود، ذهبنا إلى جامعتى القاهرة وعين شمس.. كان يتألق فى إلقائه، خاصة فى قصيدته «السد العالى»، و«الحجر الصغير».. فى خطوة ثانية فكرنا نروح القرى.. بدأنا ببركة السبع، ثم قرية مجاورة، وفيها جرى ورانا ناس، وهتفوا: «شيوعيين.. شيوعيين».. لكن فى بلدى «جنزور» استقبلتنا عائلتى «عامر» بحفاوة.. زينت مدخل البلد بيافطات ترحيب، وعلقت ميكرفون فى مضيفة العائلة.. كان الحشد ضخما، ألقى أحمد قصيدة «السد العالى»: «يا سد يا عالى يا واطى/ مش فاكر أبو المعاطى/ الفلاح أبوفاس غباطى/ اللى اندفن فى بطنك علشان تبقى عالى».. يعلق عامر: «كتب هذه القصيدة بعد أن سافر إلى السد كعامل بناء، وتألم لمصير العمال بعد انتهاء مهمتهم.. كان مهموم بمصيرهم؟».
يتذكر عامر: «ولد من جنزور يتبع الأمن، أبلغ عنا.. خص عبيدة بأنه يلقى شعر ضد «ثورة التصحيح».. قبضوا علينا، رحلونا إلى قسم شبين الكوم.. صممت أن أبقى معه.. قضينا أسبوعا فى الحجز، ثم انتقلنا إلى سجن شبين وقضينا شهرين».. كانت هذه المرحلة نقطة تحول درامية حسب رأى عامر: «لما رحنا جنزور كان معه شنطة كبيرة فيها أغلب شعره، أخذتها المباحث، وبعد خروجنا من السجن رحنا شارع زكى بجوار شارع رمسيس، كان فيه نيابة أمن الدولة، طلبنا الشنطة، رفضوا، كررنا الذهاب، وتكرر الرفض.. فى الآخر يأسنا.. من هنا بدأ انهياره، أعتقد هو إن كل شغله ضاع.. قلت له: «يا أحمد أنت كنت بتقول الشعر وفيه ناس حفظت قصائدك، وأنت كنت بتكتب أكثر من نسخة للقصيدة، وفيه ناس عندها النسخ دى، هنحاول نجمع ده كله.. ماينفعش تنهار أمام موقف زى ده».. يؤكد عامر: «لم يقتنع، اقتنع إن حياته انتهت لأن نفسه وشعره حاجة واحدة.. افتقد الشعور بقيمة أن يعيش».. يتذكر الشاعر زين العابدين فؤاد: «فى إحدى مرات القبض عليه حرق الأمن أوراقه أمامه، استطعنا جمع عدد من قصائده ونعطيها له، لكنه لم يكن يتحمل هذه الممارسات البشعة».
لم يكن لعبيدة وقتئذ إنتاج مطبوع رغم غزارته حتى يعوض ما فقد، لكن اللافت أن تسمع شعره من أفواه أهله فى بلدته، يلقونها كما لو أنك فى حضرته.. بحثت عن السر مع أصدقائه وتلاميذه ومحبوه فى «العمار»..قال كمال شعيب: «أثناء دراسته فى الكلية، نشر بعض القصائد، وسجل معه البرنامج الثانى.. كان يلقى الشعر على البسطاء والأطفال فى البلدة»..يتذكر تلميذه وجاره محسن شوقى: «كان يجمعنا، صبيان وبنات، يجلس هو على المصطبة، كان الحمام مبدور فى وسط الدار، يتقافز وكأنه يشاركنا بهجة إلقاء الشعر.. كنا نردد وراه، مرة، اتنين، تلاتة.. فيه سيدة حافظة قصيدة له منذ أن كانت صبية، تقع فى حوالى 15 صفحة»..يضيف: «خارج الدار كان يلقى شعره وأمامه الشيخ محمود أبو إسماعيل، الشيخ سعد عطوة، والمرحوم عبدالمنعم عثمان يشرح للمستمعين، كان هو الشارح الأكبر لشعر عبيدة».
تتذكر شوقية الكردى: «شعره الغنائى مستمد من الأغنيات الشعبية فى العمار، كان صوته مذهلا وهو بيغنى لنا «هلُم الورد يا أمه»، وأغنية «وده فك زرايره يا به وأنا أعمل إيه».. يتذكر عبد المعبود سليمان: «فى آواخر حياته كون فريق كورال من الأطفال، ومعه الفنان الشعبى العمراوى «إسماعيل عبدالصمد»، هؤلاء حفظوا شعره»، أما طالب الطب الشاعر عمر خيرى فوزى الذى ولد بعد انتحاره بنحو ربع قرن، فيذكر مقطعا من قصيدة عامية، يحفظها من شفاه الناس: «قالوا القمر جدع أبيضانى حليوه/ ساكن على العلٍيوة/ له شال عباية وابن نكتة/ ورموش عنيه فوق..فوق..لفوق/ كان حب فى الليله الكبيرة/ قمراية.. خضرة موردنة/ ورقص على جناح نخلة م الشغيلة/ ضربوه على أطراف الصوابع/ شنقوه من أمشاط القدم/ من يومها متعلق على البوابة/ ورموش عنيه.. فوق..لفوق».
يستكمل عزت عامر وأصدقاؤه دراما النهايات، فماذا أضافوا؟