رغما عنك، بمجرد أن تستمع للموسيقى تجد جسمك وقد تمايل يمينا ويسارا، فما أن تسرى الموسيقى فى دمك حتى تظهر آثارها على أعضائك، والعلماء يؤكدون أن الموسيقى البشرية ما هى إلا محاكاة لموسيقى الطبيعة، وموسيقى الطبيعة من صنع الله، والرقص من فعل الموسيقى، ومع ذلك مازلنا نسمع كل يوم كلمات على شاكلة «الرقص عيب»، «الرقص حرام»، «الرقص قلة أدب»، «الرقص غير مناسب للمجتمعات الشرقية ولا يناسب عاداتنا المحافظة»، وهى العبارات التى تتعامل مع الرقص باعتباره فعلا مستهجنا وغير لائق، ومن يقوم بأدائه ينظر له المجتمع نظرة دونية وكأنه شخص تخلى عن أخلاقه ووقاره فى سبيل ذلك الفعل «المكروه».
تلك النظرات والأفكار التى تراود الكثيرين منا ليس لها أى أساس أو دليل أو استناد بأن «الرقص» فعل ضد الأخلاق أو المجتمع أو الدين، فإذا تتبعنا تاريخ الرقص ونشأته سنجد أنه فى الأصل نشأ فى أحضان المعابد حتى إن إجادة الرقص شرط يجب توافره فى رجال الدين، كما كان مرتبطا ارتباطا أساسيا بالدين والعبادات والطقوس المختلفة للتقرب من المعبود، كما كان مرتبطا بالتواصل الروحى مع الإله، بالإضافة إلى أنه يعد نوعا من الإبداع الحركى، إذ اعتبره الإنسان على مر التاريخ وسيلة لارتقاء الروح، ووسيلة للتقرب من الإله باعتباره وسيلة مقدسة للتواصل، فضلاً عن أنه يعد تجسيدا لمشاعر الإنسان وانعكاسا لأفكاره ومعبرا عن مكنونات الذات أياً كانت طبيعتها.
وإذا ما نظرنا فى العلاقة التى تربط الإنسان بالرقص سنجد أن هذا الحب لم يأت من فراغ، فالإنسان العادى يتعامل مع الرقص باعتباره له من «الفطرة» وذلك لأنه استطاع بكل بساطة وبشكل تلقائى أن يعبر عن حالات الحزن والفرح والانتشاء وغيرها الكثير من المشاعر، وفقد يعجز الإنسان عن التعبير بالكلمات أو بالوصف عما يشعر به، لكن بلا شك جميعنا يستطيع التعبير بالحركات.
وانطلاقا من ذلك فإن التعبير عن المشاعر الروحانية أيضا يمكن أن يتم من خلال الرقص، ومنذ قديم الأزل تحدث الإنسان إلى آلهته بالرقص، وشكرها بالرقص، وتضرع إليها أيضا بالرقص، فاستطاع أن يحقق أعلى شعور للسمو الروحى والانسجام مع الطبيعة والصفاء النفسى، من خلال الحركات الجسدية المختلفة.
وعلى الرغم من انفصال الطابع الدينى عن بعض الرقصات وتحولها إلى استعراضية، وتطورها لتتنوع ما بين اجتماعى ودنيوى، فإن الطابع الدينى مازال متواجدا ومستمرا فى بلاد كثيرة حتى مصر. ولا عجب من قول مولانا الشيخ جلال الدين الرومى أحد أكبر المتصوفة فى التاريخ الإسلامى، الذى أسس رقصة المولوية الصوفية «أرقص وإن لم تزل جراحك مفتوحة.. أرقص وأنت حر تماما»، ونذكر بعض الرقصات المرتبطة بالدين قديماً وحتى وقتنا الحالى.
- الرقص الفرعونى
الرقص فى مصر القديمة كان ركنا مهما من أركان الحياة الدنيوية والدينية على حد سواء، وكانت تتنوع ما بين رقصات للترفيه ورقصات تقام فى الجنازات ورقصات تقام فى المعابد ورقصات خاصة بالأعياد والمواسم المختلفة.
وكان الرقص المرتبط بالدين عند المصرى القديم شكلا من أشكال العبادة وشرطا أساسيا لإقامة الشعائر والطقوس الدينية، وكانت الرقصات تتم فى المعابد فى حضرة إله أو آلهة معينين أو فى مواكب هؤلاء الآلهة أو الأعياد التى كانت تقام لهم.
كما كانت هناك رقصات خاصة بالأساطير الدينية، فكان يتم تشكيل فرق ومجموعات تؤدى الرقصات التى يغلب عليها الطابع المسرحى، فكان يتم تمثيل الأسطورة الدينية بالرقصات الاستعراضية والتعبيرية، على أنغام الموسيقى الحزينة أو بالغناء.
وقد عرفت مصر الرقص منذ عصور ما قبل الأسرات، وصوره المصرى القديم على أوانى الفخار، وبداية من عصر الأسرات تطور الرسم وانتقل إلى المقابر، وكانت النساء تقوم برقصات خاصة بعد الانتهاء من تحنيط الجسد لاسترضاء آلهة العالم الآخر لضمان حياة ميلاد جديدة للمتوفى.
والاحتفالات الدينية التى كانت تقام فى أى مناسبة لم تكن تخلو من الرقص، ولم تقتصر الرقصات على الطقوس التى كانت تقام فى المعابد للإله، إنما كانت فى بعض الأحيان تنفذ فى المناسبات الدنيوية المختلفة كالحصاد على سبيل المثال وكان الهدف من إقامتها مرتبط بالمعبود كشكره على كرمه وعطاياه.
من جانب آخر ارتبطت بعض رموز الموسيقى بالمعبودات المصرية القديمة، مثل معبودة تسمى «حتحور» وهى ربة الأمومة والسرور كانت ترتبط بـ«الشخاليل» أو ما يطلق عليها مسمى «الصلاصل».
كما ارتبطت الآلهة نفسها بمجوعة كبيرة من الرقصات الخاصة التى كانت تقدم لهم.
- التنورة الصوفية
وهى رقصة دينية شهيرة أصلها تركى وترتبط بفرق المتصوفة، أسسها الشيخ جلال الدين الرومى فى مدينة قونية التركية بالقرن الثالث عشر الميلادى، ويبدأ فيها المؤدى الذى يطلق عليه «درويش» أو «راقص التنورة»، وهو يرتدى تنورة واسعة ويقوم بحركات دورانية مع رفع اليد اليمنى إلى الأعلى وخفض اليسرى إلى أسفل ويغير الحركات خلال الرقصة.
ويصاحب رقصة التنورة ابتهالات وأناشيد دينية لمناجاة الخالق، وبجانب إنها رقصة دينية فهى ترتبط بالفلسفة والرمزية أيضا، فالحركات الدورانية تجسد الفصول الأربعة، ودوران المؤدى نفسه يرمز إلى دوران الشمس حول نفسها ودوران الكواكب حول الشمس، فيشعر الدرويش بأنه مركز الكون ويتحد معه متحررا من جسده وآثامه وطاقاته السلبية الحبيسة ودنياه كلها، ليصل بروحه خفيفة إلى الله ويصل إلى الصفاء الروحى وتحقيق الوصل مع الخالق.
والموسيقى والأناشيد عن الصوفية تعتمد على التضرع والابتهال ومناجاة الله، الأمر الذى يستوجب الصفاء الروحى الذى يتحقق بالرقص.
ووصلت شهرة هذه الرقصة الدينية إلى العالم كله، ولعل أشهر فرقتين تقدمها فى مصر هم فرقة المولوية المصرية وفرقة التنورة التراثية.
- الحضرة الصوفية
وهى طريقة للذكر تشتهر بها فرق المتوصفة خاصة التركية منها، وتتميز بالأداء الراقص كجزء من المناجاة، ويتم عقدها أسبوعيا بعد صلاة الجمعة أو فى ليلة الخميس بعد صلاة العشاء، وفى المناسبات الدينية المختلفة مثل المولد النبوى، أو مولد سيدنا الحسين أو السيدة زينب بالقاهرة.
وسميت بـ«الحضرة» كمصطلح يطلق على مجالس الذكر الجماعية، التى يؤديها المسلمون المتصوفون خاصة السُنّة، وسبب إطلاق هذا الاسم هو الإشارة إلى حضور القلب مع الله فى جلسة الذكر.
وتتنوع الجلسات ما بين خطب وتلاوة للقرآن وغناء الأناشيد والابتهالات والأدعية، والمديح النبوى، والذكر الجماعى بشكل إيقاعى، وتلاوة أسماء الله الحسنى، ويستخدم الحاضرين أحيانا الدف أثناء الحضرات، وفى أحيان أخرى يتم استخدام آلات غير الدف.
- رقصات شعب الآزتك
اشتهر شعب الآزتك بالمكسيك والمعروف أيضا بشعب مكسيكا، بشعائره ورقصاته المختلفة، والمتعلقة بطقوس وشعائر المكسيكيين.
ولعل ما يوضح أهمية الرقص بالنسبة لذلك الشعب هى مخطوطة تسمى «مخطوطة توفار»، ترجع للقرن السادس عشر الميلادى وتنسب إلى المكسيكى «خوان ديى توفار»، وتحتوى على معلومات مفصلة حول طقوس وشعائر شعب الأزتك، وتضم نحو 51 لوحة مائية، يصور بعضها رقصات لبعض النبلاء وقارعى الطبول ورئيس الكهنة، ربما تكرس هذه الرقصات للإله «تيسكاتليبوكا»، إله سماء الليل والذاكرة عند شعب الآزتك.
- الرقص فى اليهودية والمسيحية
جاءت كلمة «رقص» فى الكتاب المقدس حوالى 27 مرة، 22 مرة فى العهد القديم وخمس مرات فى العهد الجديد، وكانت تدل على البهجة والفرح ولم تدل على إنها نوع من العبادة فى أى من الصلوات أو الطقوس الدينية.
وفى العهد القديم هناك عدة مواقف يستند إليها مؤيدو الرقص فى الكنائس، فعلى سبيل المثال رقص «مريم» أخت النبى موسى بعد عبورهم البحر الأحمر، وترنيمها بالرقص والدق على الدفوف مع باقى النساء.
وهناك موقف آخر بعد طلب بنى إسرائيل لـ«هارون»، بعمل العجل الذهبى الذى كان يتم عبادته فى مصر القديمة، وذلك أثناء وجود موسى على جبل سيناء لاستلامه وحى الشريعة من الله، حيث قاموا حينها بالرقص والغناء أمام العجل الذهبى كجزء من الطقس الوثنى، وغضب موسى حينها من ذلك الفعل، ولم يثبت أن هذا الغضب للرقص فى حد ذاته إنما الثابت أنه بسبب قيام بنى إسرائيل بعمل طقس وثنى للعجل.
ومن ذلك يتضح أن العهد القديم اعترض على الرقص فى بعض المواقف غير المستحبة والمرفوضة، ولكنه لم يعترض على الرقص كفعل.
أما العهد الجديد فيظهر أن حادثة وقعت فى عهد يسوع حيث كان يتغنى بعض الأولاد فى السوق بأحد المدن، ويقولون «زمّرنا لكم فلم ترقصوا. نحنا لكم فلم تلطموا»، وكانوا حينها يلعبون لعبة تأتى قواعدها بانقسام مجموعة الأولاد إلى قسمين، قسم يقوم بالغناء كى يرقص القسم الآخر، ثم يبكى وينوح حتى ينوح الثانى، فما بكى القسم الأول ولا غنى القسم الثانى فوقف الفريقان فى الطريق يتعاتبان قائلين «زمرنا لكم فلم ترقصوا.. نحنا لكم فلم تلطموا»، فأورد يسوع هذا المثل ليفهم السامعين أنهم لم يتبعوا تعاليمه، والمسيحية لم تورد نصا بحرمانية الرقص أو قبوله، ولكن من خلال ذلك الموقف نستطيع استنتاج بأنه إن كان مكروها ومحرما لم يستعن به المسيح حتى ولو مجرد مثل عابر.