بعزوف الزاهدين، وراحة الواصلين، واطمئنان الممتلئين، سطر الخال "عبد الرحمن الأبنودى" قصيدته العفية "11 إبريل" لتنضم باستحقاق إلى عيون قصائده الإنسانية التأملية الراسخة، فقد كتب الأبنودى هذه القصيدة لنفسه، ليصف نفسه، ويغنى لنفسه، مستغنيا عن ضجيج التصفيق، ومبتعدا عن شوائب التلفيق، قصيدة تشبه تلك القصيدة التى حلم بها محمود درويش ولم يكتبها حينما قال "كنت أمشى حالما بقصيدة زرقاء من سطرين" لكن الأبنودى سطرها بخفة من يرى روحه ترقص أمامه بانتشاء ورسوخ من يعرف ومن ذاق ومن وصل واتصل فصارت الدنيا لديه فى حالة تجريدية منزوعة الملامح وكاملة المعنى.
كانت ضربات المرض تتوالى على الخال، ولأنه كان شاعرا قبل أى شيء ترنحت الدنيا من حوله ولم يترنح القلم من يده، أخذ القلم بقوة، واستخدمه بثبات، اختار أن يكتب قصيدته الصافية بموسيقية خاصة، موسيقى لا تفضح الكلمات ولا تجرحها، موسيقى تحمل المعنى إلى شواطئ المعرفة، وتسكن القلب وتهدهد الروح، وكأنه طائر محلق، رأى الأبنودى حياة البشر وكأنها حياة الزهور، فكتب مرثية للزهور التى "تقع" فيراها الرائى من بعيد وكأنها "بقع" بلا سمات مميزة ولا تضاريس حادة، وصف نفسه باعتباره زهرة فى مواسم الوقوع، مختلسا النظر من سكرات الموت، حيث كان الباب "مواربا" ما بين الموت والحياة، فيرى حينا حياته من جانب الموتى، ويرى حينا موته من جانب الأحياء.
فى آخر أيام الرحيل كان الجسد مسكونا بالهزال، لكن من يقرأ هذه القصيدة يعرف أن جسد الشعر ظل فى قلب الأبنودى عفيا صامدا، يكتب بكامل وعيه، يكتب بكامل عنفوانه، يكتب بكامل حمولته الشعرية التى تجلت فى أكبر أعماله الشعرية وأصفاها، ها هو يقابل الموت راضيا مبتهجا، لكنه بدلا من أن يستسلم للتجربة القاسية أوقفها وتأملها ورصد تحركاتها وتغيراتها، إذ يقول راصدا انسحاب الروح "لموا الستاير..أحلا ما فى النور وفى الأضواء لما بترحل تترك العتمة فى سرها وهى بتنطفي" وهنا نرى أن الأبنودى لم يتعامل مع الموت باعتباره كائنا مفزعا أو عدوا مقتربا، لكنه اختار أن يستأنسه وأن يجالسه ويستكشف أحلى ما فيه وأجمل ما فيه، ليصور نفسه وكأنه مستمتعا بسكرات الموت التى تسحب النور شيئا فشيئا، مودعة صدره أسرار العتمة المحببة.
نفس الروح العفية هى ما تظهر فى قوله المتنبئ "لكنما العام آخر الأعوام لكن جميل خطوه مرتب زى زخات الهديل" وهنا يعيد الأبنودى إلى الشاعر صورته القديمة التى كان يجلس فيها فى مقاعد الأنبياء والحكماء، فتصبح القصيدة نافذة يطل منها على الغيب فيعاينه ويصفه ويناجيه، فى حالة صافية تتشابه مع صفاء الفجر الذى يأتى بعد أن كان الأسود أنصع الألوان.
يتخلى الأبنودى فى نهاية القصيدة عن كل شىء، الموجودات تذهب، والمعنويات أيضا تذهب، كل شيء يتركه غير آسف عليه، وكل شيء فى ذاكرته محض "بقع" يغرق فى التجريد، مستخدما حواس أخرى غير التى نستخدمها فى حياتنا ليرى بها ما يرى، لكنه قبل هذا يخلى نفسه من كل شيء قد يؤثر على صفاء الرؤية وعمق الشعور، يصل إلى تلك الحالة الصوفية النادرة من "التخلية" التى تسبق "التحلية" وكأن يجسد تلك الحالة المنشودة التى لا يتأسى الواحد فيها على ما فاته ولا يفرح بما سيأتيه، لتقف شرور العالم بجوار حسناته، وتقف الأوجاع بجوار السعادات، وما هى إلا "بقع".
قصيدة 11 إبريل
كانت زهور تُقَعْ
ومشكِّلة بُقَعْ..
بَرمودة جاى عَفي
بالحر ونسيم العصارى المِخْتِفى
وبرمهات الكريم..
رَحل ورا أمشير
واستنى لما الكون صِفِى..
بعد الزفير اللى ارتفع
أيام يليق بيها الوداع
متدحرجة شبه الودع
والشمس مش متـأكدة
من فكرة أن الكون بحاله
حيتنفى..
بيوت وناس وأصدقاء
توب السعادة طرَّزوه الخيبانين
ومَلُوه رقع
لمِو الستاير
أحلا ما فى النور وفى الأضواء..
لما بترحل..تترك العتمة فيَّ
سِرَّها وهى بتنطفى.
...
إذا الزهور دبلت مهواش شيء حزين..
إلا فى حالة البشر
إذا الزهور دبلت بتستعيد الحمل بالثمر
الزرع غير الناس..
الناس إذا حملت يكون بالعزم
لا يوقعوا زهور
ولا يحتاجوش للنور
...
ويعود فى كل عام
حكاية الشهور والزهر والأنسام
لكنما العام..آخر الأعوام
لكن جميل
خطوه مرتب..زى زخات الهديل
حتى فى لحظتنا الأخيرة.. بالسعادة
براحة أقرب بالغياب
فى عبادة الزاهدين
أبدا ما نكتفى..
أبريل بيرحل..
واحنا وياه فى الرحيل
والدنيا ليل..
وإيد حبيبتى فى كفتى المفرودة
كأنها متجمدة من شدة البرودة
ولا مجال للتذكرة
فى أى خاين أو وَفي
بتختفى كل السعادات والوجع
وتروح زهور العام تُقَع
وتشكل البقع