عندما تتجه أنظار العالم إلى بريطانيا لمتابعة قمة "الناتو" المرتقبة، لن تجدها فى العاصمة لندن، حيث ستعقد فى منتجع "سيلتيك مانور"، والذى يحوى عددا من أكبر ملاعب الجولف وأشهرها فى العالم، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول دلالات اختيار الموقع، لانعقاد قمة حساسة، ربما تكون مصيرية، حول مستقبل التحالف العسكرى الأقوى فى تاريخ العالم، فى ظل حالة من الانقسام ضربت أعضاء التحالف فى السنوات الأخيرة، على خلفية حالة من التخلى الأمريكى، بدت واضحة منذ صعود الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فى يناير 2017، بالإضافة إلى شرود تركيا نحو الارتماء فى أحضان الخصم التاريخى للحلف (روسيا)، تزامنا مع انقسام أوروبى حول تقييم حالة الحلف الراهنة.
ولعل اختيار ملعبا للجولف لمناقشة قضايا حيوية بين أكبر زعماء العالم، على حساب العاصمة البريطانية لندن، أمرا ملفتا للانتباه إلى حد كبير، على الرغم من تغير الاتجاه العام، لدى القوى الدولية الكبرى، نحو اختيار منتجعات هادئة نسبيا لاستضافة القمم الماراثونية، بعيدا عن صخب العاصمة، وهو ما يبدو بوضوح فى الحالة الروسية، حيث اعتاد الرئيس فلاديمير بوتين على عقد لقاءاته الهامة، والقمم المصيرية التى تستضيفها بلاده فى منتجع "سوتشى" البديع، والذى يطل على البحر الأسود، بالإضافة إلى السبق الأمريكى فى هذا الإطار، عبر الاعتماد على منتجع "كامب ديفيد"، فى عقد القمم التى كانت شاهدا على الهيمنة الأمريكية المطلقة على النظام الدولى لعقود طويلة من الزمن، فى انعكاس صريح لحالة يمكننا توصيفها بـ"تراجع" أهمية العاصمة السياسية، لصالح مناطق أخرى، تعكس نفوذ الدولة.
حالة مختلفة.. ترامب صاحب السبق فى إقحام ملاعب الجولف بالسياسة
الحالة البريطانية تبدو مختلفة إلى حد كبير عن الحالتين الأمريكية والروسية، فى ظل معطيات عدة، أهمها تراجع وضعها على المستوى الدولى، فى العقد الماضى، بعد اتجاه واشنطن الاعتماد على ألمانيا فى عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وبعد ذلك بسبب تفاقم الأزمات الداخلية، منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبى "بريكست"، والذى صوت فيه أغلبية البريطانيين لصالح الطلاق من القارة العجوز، مما خلق حالة من الانقسام فى الداخل البريطانى فى السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى حساسية القمة، والتى قد تشهد نقاشات حادة حول كافة القضايا الخلافية، خاصة بعد التشكيك الفرنسى فى مستقبل الحلف، بعدما وصفه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بـ"الميت إكلينيكيا"، فى تصريحات صحفية قبل عدة أسابيع، وهى التصريحات التى أثارت جدلا سياسيا بين قادة الدول أعضاء التحالف، بينما دقعت قطاعا كبيرا من المحللين إلى التنبؤ بنهايته القريبة.
اختيار ملعب للجولف لعقد قمة مصيرية، على غرار الناتو، يمثل سابقة من حيث التطبيق، ولكنه ليس كذلك من حيث الطرح، حيث جاء القرار البريطانى بعد اقتراح سابق للرئيس الأمريكى دونالد ترامب بعقد قمة مجموعة السبع المقررة استضافتها فى الولايات المتحدة العام المقبل، فى أحد منتجعات الجولف المملوكة له، وهو الاقتراح الذى أثار حملات ضده، وصلت إلى حد اتهامه بالفساد، مما دفعه إلى التراجع، مما يثير التساؤلات حول مدى ارتباط مقر انعقاد قمة الناتو فى بريطانيا، بالمقترح السابق للرئيس الأمريكى حول قمة مجموعة السبع المقبلة، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار العلاقة القوية التى تجمع رئيس الوزراء البريطانى الحالى بوريس جونسون بالإدارة الأمريكية الحالية، والتى دفعت الرئيس ترامب للإعلان عن دعمه مرات عدة لجونسون، منذ عهد رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى.
توافق غير مسبوق.. بريطانيا على خط الجدل حول مقترح ترامب
مقر انعقاد قمة الناتو فى ملعب للجولف فى بريطانيا يمثل انعكاسا صريحا لحالة من التوافق غير المسبوق بين واشنطن ولندن، لأكثر من عقد من الزمان، تتجلى بوضوح فى مواقف عدة، على رأسها الموقف المناوئ للاتحاد الأوروبى، والذى يصل إلى حد العداء، وهو الموقف الذى دفع جونسون إلى الاتجاه صراحة نحو التلويح بورقة "بريكست" بدون اتفاق مع قادة أوروبا، عدة مرات، وهو الأمر الذى سبق وأن اقترحه ترامب على ماى خلال زيارته الأولى للندن فى 2018، مطالبا إياها ليس العمل من أجل الوصول إلى اتفاق، وإنما مقاضاة الاتحاد الأوروبى، ولكنه لم يلقى استجابة من جانبها، فى ظل رغبتها فى تحقيق "خروج بريطانى ناعم" من الكيان القارى المشترك، وهو ما لا يروق للرئيس ترامب.
وهنا يمكننا القول بأن انعقاد القمة المرتقبة فى منتجع "سيلتيك مانور"، يحمل فى طياته دعما بريطانيا جديدا للرئيس ترامب، عبر تأسيس "عرف" دولى جديد، من شأنه عقد القمة السياسية الهامة فى منتجعات الجولف، خاصة وأن الرئيس الأمريكى يرى فى لعبته المفضلة مصدرا جديدا للنفوذ السياسى، فى ضوء امتلاكه للعديد من الملاعب، ليس فقط فى الولايات المتحدة، ولكن فى العديد من الدول الأخرى، بالإضافة إلى حرصة الشديد على الظهور مع العديد من زعماء العالم بينما يمارسون اللعبة، من بينهم رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى خلال زيارته الأخيرة لليابان منذ عدة أشهر.
أهمية الجولف بالنسبة لترامب لا تقتصر على كونها لعبته المفضلة، خاصة وأنه طالما انتقد سلفه أوباما على قضاء أوقات طويلة فى ملاعب الجولف خلال حملته الانتخابية الأولى فى 2016، وإنما تمتد إلى أهداف سياسية بامتياز، خاصة إذا ما نظرنا إلى اتساع دائرة اللاعبين الذين يستضيفهم الرئيس الأمريكى لمشاركته، حيث لا تقتصر على الأصدقاء، أو المساعدين المقربين فى البيت الأبيض، وإنما تمتد لتشمل قطاعا من نظرائه الدوليين، بالإضافة إلى قيادات حزبية أمريكية، وأعضاء بالكونجرس، حيث يرى أن ملعب الجولف فرصة أفضل لتقديم العروض السياسية، التى لا يمكنها تقديمها فى العلن أو فى الاجتماعات الرسمية.
مبادرة جديدة.. بريطانيا تناطح أوروبا بمغازلة واشنطن
وبالتالى يبقى الاختيار البريطانى بمثابة مبادرة جديدة، من قبل جونسون، بعد مواقفه الحادة من أوروبا الموحدة، لتقديم نفسه باعتباره الحليف الأكثر وثوقا لواشنطن فى المرحلة الحالية، على حساب الآخرين، خاصة فى أوروبا، خاصة مع رغبة بريطانيا فى استعادة نفوذها المفقود فى السنوات الماضية لصالح قوى أخرى، وعلى رأسها ألمانيا، فى ظل حالة عدم التوافق بين ترامب وكلا من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، باعتبارهما أكثر دعاة الوحدة الأوروبية حماسا.
وهنا تكمن الخطة البريطانية فى وضع نفسها كمنافس قوى لأوروبا الموحدة، وعدم الاكتفاء بالخروج من الاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى من شأنه إضعافه بصورة أكبر فى المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى إجبار دول القارة العجوز على استرضاء لندن، بعد سنوات من التلاسن بين قيادات أوروبا والحكومات البريطانية، على خلفية الخلافات الحادة على التفاصيل المرتبطة بـ"بريكست"، وهو الأمر الذى وصل إلى ذروته فى عهد رئيس الوزراء الحالى بوريس جونسون.
استقطاب واشنطن لا يصب فقط فى صالح النفوذ الدولى لبريطانيا، وإنما يحقق مصلحة اقتصادية تبقى أكثر أهمية وحيوية فى المرحلة المقبلة، خاصة مع الوعود الأمريكية بعقد اتفاق تجارى تاريخى بين واشنطن ولندن، هو ما يعيد إلى بريطانية المزايا الاقتصادية التى خسرتها دول القارة العجوز فى السنوات الماضية مع الإجراءات الجمركية التى اتخذها ترامب بحق العديد من دول القارة، فى إطار إعادة هيكلة المزايا الأمريكية الممنوحة للحلفاء، وهو الأمر الذى يحتاجه جونسون فى الوقت الراهن مع اقتراب الانتخابات البريطانية المبكرة، والتى يسعى خلالها جونسون للاستئثار بالسلطة على حساب خصومه.