◄ اتهامات مرسلة للبرلمان والحكومة وتسفيه واضح من الواقع وتطوراته
◄ أحاديث مرسلة فى الاقتصاد والصناعة والتجارة والصحة والتعليم بدون خبرة أو معلومة أو رقم
◄ حكاياته عن الإسكندرية تتعامى عن محور المحمودية وغيط العنب وبشائر الخير
لا يمكن أن تكسب خصومك بالطريقة التى أوصلتك إلى قلوب أصدقائك، ربما يبدو الأمر بديهيا، لكنه بمجرد أن يخالط بعض قطاعات السياسة، ينزلق إلى دائرة ضيقة من الرتابة، والأدوات العتيقة، والممارسات المحفوظة، التى بقدر ما تستهدف استقطاب الخصوم بآليات التودد للرفاق، تكشف فى الوقت نفسه عن أزمة حادة فى الوعى، وربما فى القدرات وجدارة اقتراف السياسة أصلا!
على سبيل المثال، تورطت بعض قطاعات اليسار المصرى فى تأسيس حيز حضورها السياسى، وجدارة بقائها فى الساحة، على خطابات شعبوية ذات طابع عاطفى، استهلكتها طوال عقود مضت، ونشطت وفق تلك الرؤية فى تجنيد الموالين والتابعين والمؤيدين والأعضاء على أرضية من الشعارات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، حتى لو لم تملك آلية للوصول إلى تلك المدينة الفاضلة، أو قناعة بإمكان إنزالها على الواقع، وحتى لو لم تُحقق هذه الصورة المثالية فى دوائرها الداخلية، وللأسف، فإن الأمر نفسه ما يزال قائما!
السقوط أمام 30 يونيو
ربما لم تشهد مصر حالة انفتاح سياسى طوال تاريخها كما حدث فى الفترة التالية لثورة 25 يناير، وقتها استهلكت أغلب القوى طاقاتها فى النزق والصراعات والصفقات الداخلية والخارجية، حتى تطور الأمر مأساويا بصعود الإخوان إلى سدّة الحكم، وللأسف كان مئات من اليسار والليبراليين سلالم داستها أحذية الجماعة على طريق الصعود، فى الفترة التالية لثورة 30 يونيو تغيرت الأمور بدرجة ما، فى الوجه الأول تطلبت المرحلة حالة من الجدية وإيقاف سياق التربح والارتزاق السياسى، وفى وجه حشدت الدولة كل قواها لصد هجمة الإرهاب التى ما تزال ممتدة حتى الآن، وثالث الوجوه أن الحرب الدعائية الدولية ضد مصر، عبر منظمات حقوقية ووسائل إعلام مدفوعة، كانت تقتضى خلق سياق من الإجماع، أو الالتفاف الوطنى حول خطاب 30 يونيو.
فى المرحلة الأولى كان الإجماع قائما، لكن سرعان ما تطلعت بعض القوى السياسية إلى الانشقاق بما تصورت أنه حصتها من الكعكة/ الشعبية، وإلى جانب ذلك تطاحنت داخليا، وكانت المحصلة أنها سقطت من طابور السائرين فى موكب 30 يونيو، ترشح حمدين صباحى فى الانتخابات الرئاسية 2014، فاتهمه اليسار بالخيانة وأعلن منافسه السابق فى 2012 خالد على المقاطعة، وقتها انصرف الشارع عن السياسة ووجوهها. الحقيقة أن الفريق أول عبد الفتاح السيسى الذى أصبح مشيرا لاحقا ثم رئيسا للجمهورية حتى الآن، كان الأكثر شعبية وقبولا لدى الشارع، وفى المقابل لم تملك واحدة من القوى السياسية خطابا مقنعا أو ملبيا لتطلعات الشارع، ومن تلك النقطة تأسس خطاب معارضة السيسى ونظامه على الأدوات والوسائل التقليدية التى نبتت وترعرعت فى حدائق اليسار، بدءا من الشعارات، وصولا إلى العاطفية والمزايدة والاجتزاء والتضليل.
وجه شاب ولعبة عتيقة
الآليات التى تورط فيها الآباء انتقلت إلى الأبناء، وعلى أرضية الانحياز الأيديولوجى تورطت بعض أشبال اليسار فى أدوات اللعبة العتيقة، رغم أنها برزت على أرضية 30 يونيو واكتسبت مشروعية بروزها السياسى منها، وكان التجسيد الأكثر وضوحا لتلك المعادلة المختلة، التى تُشبه محاولة ذئب أن يأكل أطرافه، فى تكتل 25/ 30 النيابى.
خلال سنوات البرلمان الأربع يُمكن رصد مواقف عديدة، أحدث تلك المواقف كان ظهور النائب هيثم الحريرى، عضو مجلس النواب عن الإسكندرية، فى لقاء مطول مع الإعلامى عمرو أديب، خلال اللقاء انحاز «هيثم» إلى الآليات القديمة، وبعضها كان والده الراحل أبو العز الحريرى مُحترفا فيه، عوضا عن التعمق بشكل رصين ومُعزز بالرؤى والمعلومات الموثقة.
يقول النائب مثلا، إن هناك قصورا فى مشروعات التنمية، وإن المدن الجديدة لا تصنع تنمية وكان الأولى توجيه كُلفتها لتطوير التجمعات القديمة، كما يُسفه من التجمعات الصناعية مختصرا إياها فى «مصنع أو اثنين»، ويرى أن شبكة الطرق تكلفت أكثر مما وفرته من جدوى ومكسب. إضافة إلى ذلك يروى حكايات ذات طابع نضالى دون وثيقة أو سند، مثل منعه من تنظيم مؤتمر مع أهالى دائرته، أو حصاره داخل مجلس النواب، ويتحدث عن أزمات بعض الشركات التى تخلت عنها الحكومة، ضاربا المثال بالشركة التى يعمل بها «سيدى كرير»، ووسط كل ذلك لا يُفوت إطلاق الجمل الفضفاضة والأحكام العامة، وتغذية ماكينة الشعارات والدغدغة الشعبوية فى ملفات نوعية كالصحة والتعليم.
تفنيد خطاب البطولة
حاول النائب الشاب إيهام المتابعين بقدر من الموضوعية، فكرر عبارة «ليس كل شىء جميلا ولا كل شىء سيئا»، لكنه كان يستدرك الحديث مفندا الجميل ومكرسا السيئ، وإلى جانب ذلك يعتبر أن «الحكومة ليست لديها رغبة لحل المشكلات» هكذا بإطلاق وتعميم، دون حديث عن نوعية المشكلات وكُلفة حلها، وما يتوافر للجهات التنفيذية من موارد وإمكانات، تحدث عن قصور جهود التنمية ولم يُعدد مناطق القصور أو الثغرات وطريقة سدها. انتقد المدن الجديدة معتبرا أن البناء داخل «الإسكندرية القديمة» أولى، ولم يقترب من معدلات السكان ونسب النمو السكانى وحجم الرقعة المأهولة والاحتياجات الحالية والمستقبلية من المسكن والمساحات الزراعية، ونال من شبكة الطرق باختصار الأمر فى قيمة رسوم العبور، وبالطبع لم يقترب من المجمعات الصناعية النوعية ومناطق التصنيع الجديدة فى إقليم قناة السويس وأكثر من عشر محافظات.
يقول الشاب مثلا، إنه حاول تنظيم مؤتمر مع أهل الدائرة، لكنه مُنع من ذلك، وعندما يستطرد فى الحديث يتبين أنه لم يحصل على إجابة بالقبول أو الرفض، وإنما اعتذر صاحب القاعة عن إيجارها، وإحالة الأمر إلى حصار الأمن يصلح موضوعا للنميمة السياسية، لكنه لا يمكن أن يكون مادة موضوعية مقنعة على لسان نائب فى حوار عام، بالقدر نفسه جاءت أحاديث الملفات النوعية تحت لافتات شعاراتية غير متخصصة، لم يُقدم فيها رؤية أو معلومة أو رقم أو اقتراحا فى التعليم أو الصحة، وحتى عندما تحدث عن أزمات سيدى كرير، تجاهل ما أُثير بشأنها منذ بدء الفصل التشريعى للبرلمان، بشأن ضغوط على الوزير المختص لانتداب النائب الشاب للشركة، والإبقاء على راتبها إلى جانب راتب المجلس، رغم تجاوزهما الحد الأقصى، ورغم أن الشركة لا تنطبق عليها البنود القانونية فى هذا الشأن.
حاول «هيثم» مغازلة أهل الإسكندرية بالحديث عن المشكلات، واقترب من التصريح بمظلوميتها الكاملة وخروجها من دائرة المشروعات الجديدة. بطبيعة الحال لم يتحدث عن محور المحمودية الذى يُعيد صياغة شكل الحركة ومسارات التنمية فى المنطقة، ولم يتحدث عن تنمية غيط العنب بمراحل بشائر الخير الثلاثة، فضلا عن تطوير الكورنيش، والعلمين الجديدة، ومشروعات الساحل الشمالى، وكلها توظف آلافا من أبناء الإسكندرية، وتوفر معروضا عقاريا سيسهم فى إخلاء وحدات داخل المدينة يستفيد بها آخرون، بالضبط كما يحدث فى كل المشروعات العمرانية التى تُفيد الطبقات المختلفة بمنطق الخلخلة والإزاحة.
ما فات لا يعنى أن النائب الشاب لم يقل كلاما مهما، المؤكد أن الخبرة والتقدم فى العمر سيضيفان إليه قدرا من الرصانة والموضوعية، لكن الانزلاق فى وسائل وآليات اليسار والتيارات الشعبوية ربما يُعطل الوصول إلى النضج، نحتاج إلى معارضة قوية وقادرة على موازنة المشهد فى مقابل الأغلبية وحكومتها، لكن تلك المعارضة تحتاج إلى أبنية داخلية متماسكة، وقادرة على حمل أفكارها وتطلعاتها بعيدا عن المزايدة أو العاطفية أو الاجتزاء، يحتاج المتطلعون للعب هذا الدور إلى الإيمان بأنه لا يُمكنك أن تستقطب خصومك بالطريقة نفسها التى توددت بها لأصدقائك، وأن الأفضل لك البناء فى بيتك الصغير عوضا عن تبديد طاقتك فى هدم قلاع الآخرين، ومحصلة هذين الأمرين أنه يُمكن أن تنضج المعارضة يوما ما، وتفلت من فخ البطولات الوهمية.