كان الساعة العاشرة صباحا يوم 9 ديسمبر، مثل هذا اليوم،1882 حين بدأت المحكمة العسكرية جلستها لاستكمال محاكمة المتهمين فى «المؤامرة الحليمية»، نسبة إلى الأمير «حليم» ابن محمد على باشا.. اتهمت المحكمة «حليم» بتدبير انقلاب بالتعاون مع أخته الأميرة زينب ضد الخديو توفيق ان إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على، أثناء الثورة العرابية.
كان «حسن موسى العقاد» و«عثمان باشا فوزى»، وهما من رجال عرابى متهمين فى هذه «المؤامرة»، والشيخ حسن العدوى «إمام المالكية».. كان خيط الدليل على اتهامهم هو العثور على كمبيالات بمبالغ مالية فى بيت «العقاد» مرسلة من الأمير حليم من مقر إقامته فى تركيا إلي «فوزى»، ومنه إلى «العقاد» مقابل أن يلعب دور الوسيط بين «حليم» وقادة الثورة لتحقيق طموحه، حسبما يذكر «برودلى» فى كتابه «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه» ترجمة: عبدالحميد سليم «راجع، ذات يوم،6 ديسمبر 2019».
ظهر الشيخ حسن العدوى، مفتى المالكية فى الأزهر، فى التحقيقات الدائرة حول هذه القضية.. كان منصبه رفيعا، ويعد الثانى فى الأهمية الدينية بعد شيخ الأزهر، وهو من مواليد قرية «العدوة» محافظة المنيا، وممن انضموا لصفوف الثورة، وانحازوا لعرابى ضد الخديو توفيق.. يذكر أحمد عرابى فى مذكراته، أنه فى يوم 23 يوليو 1882عقد «المؤتمر العام» اجتماعا بديوان الداخلية بعد هزيمة عرابى فى كفر الدوار، وحضره الأعيان والشيوخ والضباط والسياسيون، وصدرت عنه فتوى شرعية من الشيخ العارف بالله شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ محمد عليش والشيخ حسن العدوى والشيخ الخلفاوى، وغيرهم من العلماء، ونصت الفتوى على «مروق الخديو توفيق باشا من الدين مروق السهم من الرمية لخيانته وطنه وانحيازه لعدو بلاده».
فى يوم 6 ديسمبر 1882 استدعت المحكمة العسكرية «حسن موسى» و«عثمان فوزى باشا» لمواجهتهما، وفى نفس اليوم استدعت «العدوى» لسؤاله حول تقاضيه أموالا من «العقاد» أو «فوزى» مرسلة من الأمير حليم.. يذكر برودلى، أنه فى 5 ديسمبر 1882 ذهب إلى السجن لمقابلة «العقاد» و«فوزى» باعتباره محاميا عنهما، وأثناء ذلك التقى «العدوى» لنفس الغرض..يصفه «برودلى»: «كان واهنا كبير السن ضعيفا، يئن تحت حمله سنواته الثمانين، يكاد يبلغ طوله خمسة أقدام حتى فى أحسن أيامه، ووجهه مجهد وغائر حتى كادت عيناه لاتبينان.. كان بوجه عام ملتفا بإزار ليس نظيفا تماما، بطن بخطوط من الفرو، كان يرتدى شالا ناصعا من الكشمير وعمامة جميلة، ويحمل معه مسبحة ومصحفا، وفى زنزانته التى يقاسمه فيها «عبدالغفار بك»، كان يجلس على سجادة فارسية جميلة، ويبدو دائما أنه نصف مدفون فى المصاحف والمخطوطات المزخرفة».. يضيف: «لفترة أبعدنا عنه، وبرهن لعبدالغفار، أن استخدام المحامين الكفرة جريمة ضد القانون».
يؤكد «برودلى» أن وجهة نظر الشيخ بعدم جوازالاستعانة بالمحامين الكفرة تغيرت، وطلب منه مساعدته، والسبب: «اكتشف أن مختلف الفقرات فى مؤلفات أكثر المعاقين وعيا، تقر بأن المسلم يلجأ إلى الكافر فى حالات الخطر المؤكدة والهلاك الوشيك».. يتذكره برودلى بإجلال: «تحت هيكله الواهن، ما لبثت أن اكتشفت وطنيا وباحثا غيورا على العدالة، وأخلاقيا إلى أبعد الحدود، كان مؤيدا قويا ومخلصا لعرابى، وبالتالى تبين أنه لم يتلق من حسن موسى إلا القليل من المال الذى وهبه صدقات لحساب مسجده».. يضيف: «إذا كان عندى ذكريات عن إقامتى فى مصر، فإننى لا أجد أعظم قدرا من أربع سور قرآنية مزخرفة زخرفة جميلة بعث بها إلى عقب إطلاق سراحه، فى الحقيقة هدية لها قدرها، إذ ندر أن يهدى المسلمون بأمثالها للمسيحيين».
فى يوم 6 ديسمبر 1882، عقدت المحكمة مواجهة بين «العقاد» و«فوزى» ثم استدعى «إسماعيل أيوب باشا»، رئيس قومسيون التحقيق، الشيخ العدوى، وسأله فى حدة: «هل تلقيت أموالا من عثمان فوزى؟».. أجاب بالنفى مرة بعد مرة، لكن «أيوب» رفض إجاباته، وبعد أن أحس «العدوى» بتعبه وإجهاده أراح ذراعيه أخيرا على المنضدة، قائلا: «ماذا فعلته حتى ترهقونى بهذه الصورة؟ لوكانت لكم زوجات كثيرة وجوار، فأنتم مدينون لى بوجودهن، ألم يسع «الخديو إسماعيل باشا» إلى إلغاء تعدد الزوجات والحض على الزواج من واحدة؟ ألم أكن أنا الشيخ الذى برهن على أن تجديدا مثل هذا «يقصد قصر الزواج بواحدة» مخالف لكتاب الله تعالى؟ أهذه هى مكافأتى»؟.. يؤكد برودلى: «بسرعة تأجل انعقاد الجلسة».
عقدت المحكمة جلستها يوم 9 ديسمبر، مثل هذا اليوم عام 1882، وشهدت قمة إثارتها باستدعاء «العدوى».. يتذكر «برودلى»: سأله إسماعيل أيوب مرة أخرى، هل تلقى أموالا من «عثمان باشا فوزي؟»، فأجاب: «أبدا».. فجأة مر خاطرعلى ذهن «أيوب» جعله يغير استجوابه بأسلوب مسرحى مباغت، وبصوت كالرعد سأله، إذا كان وقع وختم على قرار يعلن أن الخديو يستحق الخلع؟.. يصف «برودلى» حالة الشيخ وهو يجيب: «بدا فجأة وقد استعاد حماس شبابه القديم، فمال إلى الأمام، باسطا يده، وناظرا فى ثبات إلى إسماعيل أيوب، وقال: آه ياباشا، لايمكننى بدون أن أرى الوثيقة التى يتحدثون عنها أن أقول ما إذا كنت قد وقعتها أوختمتها، ولكن هذا ما أقوله فعلا: لوأحضرت لى قرارا كُتب بالمعنى الذى تذكرونه، فسأكون على استعداد لأن أوقعه وأختمه فى حضوركم الآن.. لوكنتم مسلمين، فهل تنكرون أن «توفيق باشا» خان بلده ولجأ إلى الإنجليز؟.. هل يعد جديرا بأن يحكمنا؟
يؤكد «برودلى»: «لوأن قنبلة سقطت فجأة وسط الغرفة لما أحدثت ذعرا أعظم من ذلك».