"حصلنا على تفويض جديد وقوى لإنجاز بريكست".. هكذا قال رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، بعد الفوز التاريخى الذى حققه حزب المحافظين، فى الانتخابات البرلمانية المبكرة، فى ضوء المؤشرات الأولية التى تفيد تمكنه بتحقيق الأغلبية المطلقة، فى البرلمان البريطانى، وهو ما يعنى هيمنته على مقاليد الأمور تماما على الساحة البريطانية، بعد شهور من الارتباك، جراء الانقسامات التى لم تقتصر على الحياة السياسية فى لندن، ولكن امتدت إلى الدوائر الضيقة فى الداخل الحزبى، وهو ما بدا بوضوح فى الانشقاقات المتزايدة التى شهدها الحزب الحاكم، بين نوابه فى البرلمان، والذين اتجهوا للانضمام إلى كتلة "الديمقراطيين الأحرار" الوليد، ليفقد "المحافظون" أغلبيتهم البرلمانية.
ولعل النجاح الكبير الذى حققه حزب المحافظين فى بريطانيا، على حساب خصومه، يمثل انتصارا كبيرا لجونسون، والذى راهن على فكرة الانتخابات البرلمانية المبكرة، وذلك بعدما فشل فى توحيد الأصوات داخل البرلمان السابق، لدعم رؤيته حول مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى، وكذلك عدم قدرته على تنفيذ القرار الذى استصدره من الملكة إليزابيث بتعليق أعمال البرلمان، بسبب حكم أصدرته المحكمة العليا فى العاصمة البريطانية ببطلانه، ليجد نفسه فى النهاية أمام طريق واحد، وهو الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، وهو القرار الذى ربما رآه البعض فى البداية بمثابة مقامرة غير محسوبة فى ظل حالة الانقسام الكبيرة داخل أروقة السياسية البريطانية حول "بريكست"، وكيفية تطبيقه، بالإضافة إلى تداعياته على مستقبل بريطانيا.
مقامرة محسوبة.. جونسون أزاح أكبر عقبة أمام "بريكست"
إلا أن مقامرة جونسون يبدو وأنها كانت محسوبة إلى حد كبير، حيث أدرك مبكرا استحالة الوصول إلى حل فيما يتعلق بمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى فى ظل التشكيل السابق للبرلمان، وبالتالى فهناك حاجة ملحة إلى إعادة هيكلته، عبر الدفع بمرشحين "محافظين" ممن يعتنقون نفس أفكاره، خاصة فيما يتعلق بمناوئة أوروبا الموحدة، وبالتالى استعادة أغلبية الحزب المفقودة، بالإضافة إلى الحصول على دعم البرلمان الجديد فى تحقيق ما يمكننا تسميته بـ"بريكست صلب"، بعيدا عن محاولات الخروج الناعم التى دعا لها سياسيين أخرين، وعلى رأسهم رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماى، والتى فشلت كذلك فى إقناع البرلمان برؤيتها عدة مرات.
وتمثل تجربة ماى مع البرلمان البريطانى، بتشكيله السابق، نموذجا ملهما لجونسون، حول الكيفية التى ينبغى بها التعامل مع المؤسسة التشريعية، خاصة وأنه قوض كافة محاولاتها لتمرير الاتفاق الذى أبرمته مع الاتحاد الأوروبى، على الرغم من كونه غير مقبول من قبل "أعداء" أوروبا الموحدة فى الداخل البريطانى، وعلى رأسهم جونسون نفسه، والذى آثر الاستقالة من منصبه كوزير للخارجية من حكومة ماى فى العام الماضى، بسبب ما اعتبره "إلتفافا" على إرادة البريطانيين الذين سبق لهم التصويت فى استفتاء 2016، لصالح الخروج من الكيان القارى المشترك، ليكون خروجه من الحكومة بمثابة اللبنة الأولى فى سقوط حكومتها، بعد ماراثونات طويلة، سواء مع قادة القارة العجوز أو أعضاء البرلمان، والتى أدت فى نهايتها إلى إعلان استقالتها من منصبها.
استفتاء جديد.. البريطانيون يعلنون الطلاق من أوروبا مجددا
وهنا يمكننا القول بأن دعوة جونسون إلى الانتخابات البرلمانية المبكرة كان بمثابة استفتاء جديد، فى الشارع البريطانى، حول الخروج من الاتحاد الأوروبى، خاصة إذا ما نظرنا إلى النتائج التى تبدو واضحة من مؤشراتها الأولية، والتى تعكس انتصارا كبيرا للمحافظين، تحت قيادة أحد أكثر المناوئين لأوروبا، فى ظل مواقفه العدائية للقارة العجوز، والتى وصلت إلى حد التلويح فى أكثر من مناسبة بالخروج من العباءة الأوروبية دون اتفاق، وهو الأمر الذى اعتبره قطاع كبير من الساسة والمحللين، دربا من الجنون، بسبب التداعيات الكبيرة المترتبة على ذلك، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد البريطانى، فى ظل ارتباطه الوثيق بمحيطه الإقليمى، سواء من حيث الاتفاقات التجارية أو الاستثمارات أو غير ذلك.
وبالتالى كان التصويت لصالح "المحافظين" هو بمثابة تصويت جديد لصالح الطلاق من أوروبا، وهو ما عبر عنه جونسون فى أول تصريحات له بعد انتصاره، معتبرا أن النتائج هى بمثابة تفويض جديد له، فى انعكاس صريح لنجاحه المطلق فى فرض رؤيته على الجميع داخل بريطانيا فى المرحلة المقبلة، خاصة فيما يتعلق بـ"بريكست"، بعد سنوات من الجدل، كما أنه يعكس فى الوقت نفسه، فشل الدعاية التى تبناها كبار الساسة البريطانيين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير، للتراجع عن الخطوة، عبر الدعوات التى ثارت حول إمكانية عقد استفتاء جديد، وهى الدعوة نفسها التى تبناها جيريمى كوربين فى خطاباته الانتخابية.
حالة الرفض البريطانى لأوروبا كان بمثابة الرهان الأول لجونسون فى دعوته للانتخابات المبكرة، فى ظل مخاوف المواطنين من جراء الهجرة المتزايدة لبلادهم، وبالتالى فقدان فرص العمل لصالح المهاجرين القادمين من دول أخرى، خاصة دول أوروبا الشرقية، والذين يقبلون العمل بأجور أقل من نظرائهم البريطانيين، بالإضافة إلى زيادة القلق الأمنى نتيجة تسلل عناصر متطرفة بين اللاجئين القادمين من دول أوروبية أخرى، خاصة مع التقارب الزمنى بين التصويت فى الانتخابات البريطانية من جانب وحادث الطعن الأخير على جسر اللندن، والذى أدى إلى إصابة عدد من المواطنين.
دعاية فوتوغرافية.. الصورة وسيلة جونسون بعيدا عن لغة الخطابات
وعلى الرغم من أن جونسون كان مقلا إلى حد كبير فى خطاباته الانتخابية، على عكس منافسيه، إلا أنه اعتمد الصورة كوسيلة جديدة للدعاية، عبر الظهور فى أماكن تمثل محورا لحديث البريطانيين، وأخرها الظهور بملابس طاهى، فى أحد المطاعم، وقيامه بإعداد "فطيرة"، فى حضور عدد من المواطنين، وهو ما يمثل محاولة لتهدئة المخاوف المرتبطة بالاستثمار، فى مرحلة ما بعد "بريكست"، كما ظهر قبل ذلك فى مزرعة للدواجن، فى إشارة أخرى لخطته حول تطوير الثروة الحيوانية، باعتبارها ضمان لتحقيق الاكتفاء الذاتى وكذلك التصدير للخارج فى المستقبل، دون الحاجة لاستيرادها.
اعتماد جونسون على ما يمكننا تسميته بـ"الدعاية الفوتوغرافية"، لم تقتصر على جانبها الإيجابى، ولكنها امتدت كذلك إلى الجانب السلبى، عبر الامتناع عن التصوير فى بعض المواقف، ولعل أبرزها امتناعه عن الظهور مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مباحثتهما الثنائية الأخيرة، والتى عقدت فى منتجع "سيلتيك مانور"، على هامش قمة الناتو الأخيرة، وذلك فى محاولة لعدم استفزاز كارهى ترامب فى لندن، فى ظل تضاؤل شعبية الأخير، وهو ما يبدو واضحا فى المظاهرات المناوئة له، والتى تتزامن مع كل زيارة يقوم بها الرئيس ترامب إلى بريطانيا.