بدأ الدكتور طه حسين منذ يوم 31 ديسمبر، مثل هذا اليوم، عام 1937 فى تنفيذ مخططه لاستكمال الخطوات اللازمة لإصدار كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وذلك بعد إقالة الملك فاروق لوزارة مصطفى النحاس..كان الكتاب فى الأصل عبارة عن تقرير يعده حسين لرفعه إلى «النحاس»، ولما استقال قرر عدم رفعه وتحويله إلى كتاب.. «راجع ذات يوم 30 ديسمبر 2019».
صدر الكتاب فى صيف 1938، ويراه الدكتور أحمد زكريا الشلق فى كتابه «طه حسين.. جدل الفكر والسياسة»: «ليس كتابا علميا أو تاريخيا بالمعنى المألوف، وإنما هو بيان مطول، وبرنامج مسهب يشخص الداء ويقترح الدواء، ويرسم مستقبل الثقافة والتعليم لمصر المعاصرة، كأساس لنهضتها وتحديثها، فى لغة خطاب فكرى مباشر، واضح وجلى».
يوجه طه حسين كتابه إلى الشباب، حسبما يذكر الدكتور محمد حسن الزيات فى كتابه «ما بعد الأيام» مضيفا: «يدعوهم إلى أن يثقوا بأنفسهم، ويؤمنوا بأنهم ليسوا أقل شأنا من شباب أوربا، وأنهم فى الواقع شركاء فى هذه الحضارة الحديثة، لأنها نابعة من حضارة البحر الأبيض المتوسط التى كان للمصريين والعرب فيها مشاركة بعيدة الأثر، وهو ينبه إلى أنه على شواطئ هذا البحر تقع مصر ولبنان وسوريا، وتقع ليبيا والجزائر والمغرب وتونس، وحضارة هذا البحر لا تقف عند حافته، إن حضارة دمشق وبغداد أيضا تعد جزءا من حضارة البحر الأبيض المتوسط، والخرطوم وشنقيط «موريتانيا»، أيضا تعد جزءا من حضارة البحر الأبيض المتوسط».
ينقل «الزيات» عن «حسين» قوله: «على الجيل العربى الحاضر أن يبنى الآن على أساس تراثه الشرعى، وبعد نفض الغبار عنه، مستفيدا فى الوقت نفسه بثمار الحضارة والثقافة المعاصرة، ويجب أن ترفض هذه الدعوى الباطلة التى تقول إن أهل الحضارة الحديثة غربيون وإننا شرقيون، وإنه لا لقاء بين الغرب والشرق، فنحن لسنا شرقيين إذا كانت كلمة الشرق تعنى الصين والهند واليابان، إن ما يسمى بالغرب الحضارى والثقافى ليس إلا امتدادا وتطورا لحضارة كان آباؤنا شركاء فى صنعها».
يذكر الزيات، أن طه حسين ينبه فى الكتاب إلى ضرورة ترابط الشعوب العربية وتضامنها، وأنه من الواجب على مصر التى استقلت بنفسها وبإرادتها، أن تمد يد المعاونة لمن حولها من البلاد العربية.. الحجاز مثلا يحتاج إلى مدارس لم يكن يستطيع بموارده المحدودة فى ذلك الوقت، أن يقيمها، فعلينا أن نساعده، ونقدم له مايحتاج من العون، ومن يحتاج إليهم من الأساتذة، وبلاد شمال أفريقيا لا تستطيع لوجود الاحتلال الفرنسى أن تبنى المدارس العربية، فعلينا أن نبنيها لها».. يطالب بالتشدد فى مواجهة فرنسا فى حال رفضها، قائلا: «يجب إفهام حكومة فرنسا أن لها فى بلادنا مدارس هى مدارس «الليسيه»، فإذا لم تسمح لنا بإنشاء المدارس فى البلاد العربية التى تقع حاليا تحت حكمها، فإن لنا بل إن علينا أن نغلق مدارسها الفرنسية فى مصر».
أثار الكتاب خلافا وضجة.. يذكر «الشلق»: «كانت ردود الفعل متباينة، فاحتفى به دعاة الفكر التحررى الليبرالى، والمؤمنون بضرورة اقتباس نظم وأفكار الغرب وحضارته، ورأى البعض الآخر فى هذا الكتاب آخر صوت فى الثقافة العربية يطرح الثقة بالحضارة الأوربية، ويدعو إلى قبولها بجرأة وانفتاح قبل أن تقضى «الردة العربية الإسلامية ضد أوربا على اتجاه التغريب العلمانى الصريح، ولقى الكتاب معارضة شديدة من جانب المحافظين ودعاة السلفية، ورد عليه حسن البنا مرشد جماعة الإخوان متسائلا: إذا كنت تريد تقليد الأوربيين فى الدعوة إلى العلم والخلق وإلى النظام، أفترى أن الإسلام لم يأمر بذلك، ولماذا تدعونا إلى ذلك باسم أوربا الناشئة المتخبطة ولا تدعونا إليه باسم الإسلام».
امتد الجدل إلى والد طه حسين.. يكشف «الزيات»: «فى المنيا يزعم بعض الناس لوالد طه حسين أن ابنه كتب كتابا يقول فيه: «لسنا شرقيين يعنى لسنا عربا، بل نحن غربيون، والشيخ حسين يقول لمحدثه، إن هذا الكلام غير دقيق، فهذا كتاب طه بين يدى، ويعطى الكتاب لمن يقرأ فيه الصفحة التى يدله عليها، فيقرأ القارئ حلم المؤلف بأنه يرى «شجرة الثقافة المصرية باسقة نبتت أصولها فى أرض مصر، وارتفعت أذرعها فى سماء مصر، وامتدت أغصانها فى كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح».. يضيف الزيات، أن الشيخ حسين علق لقارئه: «يعنى شجرة العلم عندنا لابد أن تظل كل ما حولنا من البلاد، يعنى البلاد العربية شرقا وغربا وجنوبا، وما تثمره الشجرة من الثمار يجب أن تشرك مصر فيه الأهل والجيران العرب».. يذكر الزيات، أن القارئ تابع قراءته: «إن الدكتور طه يرى فى هذا الحلم «مصر وقد انجاب عنها الجهل، وأظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعا، فأخذ بحظه منها الغنى والفقير، والقوى والضعيف، النابه والخامل، الناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والأكواخ».. علق الشيخ حسين لقارئه: «يعنى أنه يدافع عنا، عنى وعنك، يدافع عن الفقير والضعيف والخامل والعجوز».