لا أعلم لماذا كلما شاهدت فيلمًا للمخرج المخضرم «وودى آلن» استدعيت فورًا ذلك الوجه ذو الأنف الكبير والعينين الحادتين المليئتين بالحزن.. أستدعى كيف يمشى بخطوات واسعة تشبه القفزات كأنه «كنجرو» صغير يهرب من شىء ما، أو لنكن أكثر دقة «كائن شديد الخفة» تطارده الكثير من الأسئلة المتعلقة بالوجود، حيث هناك دائما سؤال حتمى يدور فى رأسه: ماذا بعد؟.. وبمعنى أكثر دقة: ماذا بعد أن نولد، ماذا بعد أن نحب، أو نمارس الجنس، ماذا بعد الصدق فى المشاعر، أو الخيانات؟ إنه الموت حتمًا، فلماذا إذن نتصارع ونعذب أنفسنا إذا كان مصيرنا الفناء، لماذا لا نعيش ونستمتع بكل لحظة ونمسك بها حتى النهاية بدلًا من أن نعذب أنفسنا ونعذب الآخرين؟!
يبدو أن «وودى آلن» المخرج صاحب الإيقاع السريع، المتأمل فى أحيان أخرى، الذى يريد دائمًا أن يمسك باللحظات، منذ أن كان طفلًا وهو شغوف بطرح الأسئلة الوجودية.
«وودى» المولود فى 1 ديسمبر عام 1935 فى بروكلين بنيويورك، كان طفلًا مميزًا اختار أن يمارس هوايتين، وهما الخدع السحرية والعزف على الكلارنتيت- لايزال يعزف حتى الآن- بدأ عمله فى سن 15، حيث كتب مجموعة من النكات الهزلية لصحيفة محلية مقابل 200 دولار فى الأسبوع، وأصبح عنده قناعة أن النكات التى يصوغها تذهب أدراج الرياح بعد أن تلقى المجلات جانبًا أو فى سلة المهملات، لذلك أقنعه المحيطون به أن يقدم عرضا مسرحيا خاصا به، وبعد نجاحه كتب أول فيلم له عام 1965 بعنوان «What's New Pussycat» وتعرض خلاله للعديد من المشكلات التى خلص منها إلى أنه يجب أن يكون مسيطرا على جميع عناصر العمل الفنى حتى يخرج بالشكل المناسب، فهو فنان يعانى قلقا دائما ولديه هاجس لا يستطيع التغلب عليه وهو أنه إذا لم يكن مسيطرًا على كل عناصر العمل الذى يقدمه شىء ما سيفسده، القلق الذى يلازم وودى لم يكن وليد الشباب والتحقق، بل هو شعور أصيل فى تكوينه منذ أن كان طفلاً.
ويحكى «وودى» فى فيلمه الوثائقى الذى قدم بعنوان Woody Allen: A Documentary أنه بدأ رحلة القلق منذ أن كان فى السادسة من عمره.. بل قبل أن يصل إلى السادسة، حيث كان طفلًا شغوفًا بالحياة وبكل ما فيها، لكنه ما إن وصل إلى السادسة من عمره حتى علم حقيقة أننا جميعًا سنموت فى النهاية، منذ هذه اللحظة توقف عن الشغف بالحياة وأصبح كئيبًا وصامتًا معظم الوقت، حسبما قال فى الفيلم التسجيلى.
وهى الحالة التى ظلت رابضة بداخله وفى أعماقه وحملها معه سنوات إلى أن استطاع أن يعبر عنها بشكلٍ دقيق، فى أحد مشاهد فيلمه «Annie Hall» الذى عرض فى عام 1977، حيث قدم وودى مشهدا لطفل يعبر عنه أو انعكاسا لشخصيته جالسًا بجانب أمه، فى عيادة الطبيب النفسى، وتشرح والدته الأزمة للطبيب وتقول إن ابنها لا يريد مذاكرة دروسه والنجاح فى المدرسة، فيرد الطفل بأنه ليس عليه أن يذاكر، سنموت جميعًا فى النهاية، فلماذا نذاكر؟ ما فائدة المذاكرة والنجاح إذا كان الموت هو النتيجة؟
ويقول «آلن» إنه فى يومٍ من الأيام، اجتاحه الحزن الشديد، حيث بدأ يعيد طرح العديد من الأسئلة على نفسه وأهمها المتعلقة بوجود إله، وقال لنفسه إنه إذا لم يكن هناك إله فإن هذا الكون عدمى ولا يوجد سبب للحياة، فى هذه اللحظة قرر أن يجرب فكرة الانتحار وأمسك البندقية وصوبها نحو دماغه، عندها فكر «آلن»، ماذا لو كنت خاطئًا؟ ماذا لو كان هناك بالفعل إله؟ لكنه لم يكتف بفكرة أنه «ربما» يوجد إله، وفى هذه اللحظة انطلقت رصاصة من البندقية واخترقت المرآة الموضوعة على الحائط، لم يستطع «آلن» الانتحار لكنه كان متوترًا لدرجة أنه ضغط على الزناد دون أن يقصد.
اضطر «وودى آلن» إلى الخروج من المنزل ليفكّر فيما فعله، وما يريد أن يفعله، فى هدوء، ذهب «وودى» إلى السينما، المكان المحبب بالنسبة له، أراد وودى أن يجلس فى السينما ليعيد التوازن العقلى إلى عالمه مرة أخرى، شاهد فيلمًا قد شاهده مرات عديدة من قبل، لكنه شعر فجأة أن الفيلم جذب كل انتباهه، عندها شعر آلن بأن فكرة الانتحار هى فكرة تحمل قدرا من الغباء، تلك المعانى والتساؤلات تشكل جزءا كبيرا من سينما وودى آلن الذى قال فى تصريحات صحفية، إنه سيحاول أن يتوقف عن طرح الأسئلة ويحاول الاستمتاع بالحياة، ولكن لم يستطع وودى التخلص من القلق والحيرة راجع فيلمه Vicky Christina» Barcelona»، حيث إن «فيكى» دائما فى حيرة فيما يتعلق باختياراتها وحياتها المستقبلية ما بين خطيبها التقليدى والنمطى والرسام الإسبانى- جسده خافيير بارديم- المنطلق والمتحرر الذى لا يعرف القيود، الذى أقامت علاقة معه، وهى المعانى التى تتأكد أيضا فى فيلميه المتميزين To Rome with Love، Blue Jasmine
وودى آلن هو فنان وفيلسوف وكاريكاتيرى ساخر يغوص فى أعماق النفس البشرية بكل تناقضاتها ويؤرقه دائما رمادية الحياة، ورغم تأكيده أنه يحاول أن يستمتع بالحياة فإنه لا يستطيع التوقف عن طرح الأسئلة.