مرة أخرى تخسر الإنسانية طقسًا مهما من طقوسها الممتدة عبر مئات السنين، وهو الاحتفال بأسبوع آلام السيد المسيح دون أي فعاليات وذلك بسبب فيروس كورونا المستبد الذى راح يهدد العالم كله.
فى هذه المناسبة الدينية حسب العقيدة المسيحية كانت الأيام الأخيرة للسيد المسيح على الأرض، وخلال هذا الأسبوع وصولا إلى القيامة عانى المسيح بشدة.
أحد السعف ومعنى الاحتفال
أحد السعف هو يوم "الأحد" السابع من الصوم الكبير والأخير قبل عيد الفصح أو القيامة، ويسمى الأسبوع الذى يبدأ به أسبوع الآلام، وهو يوم ذكرى دخول يسوع إلى مدينة القدس، ويسمى هذا اليوم أيضا بأحد الزيتون لأن أهالى القدس استقبلوا المسيح بالسعف والزيتون، لذلك يعاد استخدام السعف والزينة فى أغلب الكنائس للاحتفال بهذا اليوم.
إن مثل هذا اليوم يذكرنا بالأيام السابقة قبل انتشار فيروس كوورنا حيث كنا نتحرك بكل حرية لكن الناس الآن فى بيوتهم صاروا ملتزمين بالحظر وممنوعين من التجمعات والاحتفالات وذلك من أجل صحتهم العامة.
اثنين البصخة وتعليم الناس
اليوم الثانى من أسبوع آلام السيد المسيح، وكلمة "البصخة" تعنى العبور، فبعد استقبال المسيح بسعف النخل وأغصان الزيتون فرحين به وجاعلين منه ملكًا على أرواحهم، فقد وقع اليوم شيئين:
الأول، فى الصباح عندما نزل من بيت "عنيا" إلى القدس مر بشجرة تين مورقة، لكنها غير مثمرة فلعنها، والثانى طرد المستغلين لبيوت الله فى غير ما خصصت له.
أما الشىء الثانى الذى فعله المسيح فى ذلك اليوم، فهو أنه لما دخل القدس وجد الناس يبيعون ويشترون فى بيت العبادة، وحينها غضب وقام بقلب موائد الصيارفة وكراسى باعة الطيور، وقال لهم: "مكتوب بيتى بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"، هذا مع كون الأشياء التى تباع كانت من أجل الصلاة داخل القدس، لكن رؤية المسيح كانت قائمة على أن بيوت الله هى للعبادة فقط، وليست مكانًا لبيع أو شراء أو مساومة أو تآمر على الناس والبلدان.
ولو شئنا تفسير ما فعله السيد المسيح على أيامنا هذه سنجده قد لعن كل شيء لا يفيد ولا يقوم بدوره حقيقة، كما لعن هؤلاء الطماعين المستغلين الذين يستغلون ظروف الناس فيربحون من آلامهم.
ثلاثاء السؤال: من أنت؟
كان يوم الثلاثاء حافلا بالأحداث، فشجرة التين المورقة التى لم تعجب السيد المسيح لكونها بلا ثمر فلعنها يوم الاثنين، لما كان الثلاثاء وجدها التلاميذ يابسة فتعجبوا قائلين: "كَيْف يبست التينة"، وهنا شرح لهم السيد المسيح فاعلية الصلاة وقوتها.
أما الكهنة ورجال الدين الذين شعروا بالقلق بسبب قوة روح المسيح التى بدأت تؤثر فى الموجودين ولم يعجبهم ما فعله المسيح فى البائعين داخل حرم بيت الله، فسألوه عن مصدر سلطانه حتى يدخل القدس وسط أتباعه ويطرد الباعة، فقال لهم: "وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة فأجيبونى: معمودية يوحنا: من السماء كانت أم من الناس؟ أجيبونى؟" ففكروا فى أنفسهم قائلين: إن قلنا: من السماء: يقول فلماذا لم تؤمِنوا به؟ وإن قلنا من الناس، فخافوا الشعب، لأن يوحنا كان عند الجميع أنه بالحقيقة نبى، فأجابوا وقالوا ليسوع: لا نعلم، فأجاب يسوع وقال لهم: وأنا لا أقول لكم بأى سلطان أفعل هذا؟
أربعاء المؤامرة.. الجهل واللامبالاة
كانت خيوط المؤامرة قد بدأت فى يوم الأربعاء ليومين قبل عيد الفصح، لم يخرج المسيح للقدس وغالبًا قضى اليوم فى بيت عنيا، وبينما كان هو يعبد الله ويتقرب إليه وتلاميذه حوله يسمعون، كان رجال السلطات الدينية قد اجتمعوا لتدبر قتله، لكنهم قالوا "ليس فى العيد لئلا يكون شغب فى الشعب".
لكن الخيانة تأتى دائما من غير المتوقع، فتلاميذ المسيح وحواريوه لا يتصور أحد أن يكون فيهم ضعيف الإيمان الذى يبيع معلمه، لكن "يهوذا" فعلها وذهب إلى رؤساء الكهنة، وقال: "ماذا تريدون أن تعطونى وأنا أسلمه إليكم"، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".
يريد أن يسلم أستاذه ليقتله أهل الضلال، وكعادة الأغبياء يبيع روحه للشيطان بثمن بخس، فالثلاثون من الفضة التى حددها اليهود هى ثمن شراء العبد، حسب القانون، وبهذا يكون السيد المسيح قد تم بيعه كـ"عبد".
يهوذا ذلك الخائن موجود دائما، نصنعه نحن مرة بالعلم ومرة بالجهل، وفى أزمة كورونا الأخير صنعناه بالجعل وباللامبالاة، فانتشر الفيروس فى كل العالم لأن جهلنا سلمنا إليه.
خميس العهد
لما كان مساء يوم عيد الفصح جلس المسيح مع الاثنى عشر من حوارييه احتفالا باليوم، وفيما هم يأكلون قال المسيح "الحق أقول لكم إن واحدا منكم يسلمنى.. ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، لكن ويل لذلك الرجل الذى به يسلم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد"، وبحسب الأناجيل فإن يهوذا الإسخريوطى هو التلميذ الذى خان المسيح "يسوع".
وكان "يهوذا" قد اتفق مع رؤساء كهنة اليهود على أن يسلم لهم المسيح مقابل الحصول على ثلاثين قطعة فضة، وأن يسلمه لهم فى مكان خلاء لأن اليهود كانوا يخشون القبض على المسيح فى النهار أمام الجموع لئلا يثوروا ضدهم، وكان يهوذا قد اتفق مع اليهود أن يدلَّهم على مكان المسيح مؤكدا أن المسيح هو الشخص الذى يقوم بتقبيله، وعندما وصلوا قال له المسيح جملته المشهورة: "يا يهوذا، أَبِقبلةٍ تُسَلِّمُ ابن الإنسانِ؟".
الجمعة الحزينة.. العالم على الصليب
"فى يديك أستودع روحى" كانت هذه هى آخر كلمات عيسى كما تذكر الأناجيل، لكن قبل الوصول إلى هذه الصورة النهائية حدثت الكثير من الأمور التى صنعت نوعا من التوتر، لكن وحده المسيح كانت روحه مطمئنة بإيمانه، فالكهنة والتلاميذ ورجال السياسة والقادة ويهوذا كانوا فى موقف صعب لا يحسدون عليه، لأنه فى هذا اليوم تم تسليم المسيح والقبض عليه ومحاكمته وتنفيذ الحكم.
"يا صاحب لماذا جئت" هكذا خاطب المسيح "يهوذا" عندما وجده داخلا عليه بين الجنود الرومانيين، لكن يبدو أن هذه الجملة لم تكن كافية ليرتدع الخائن الذى قام بتقبيل "السيد" حتى يعرفه الجنود الرومان الذين كانوا يجهلونه، وكانت حجة اليهود التى قدموها للحاكم الرومانى "بيلاطس" أن المسيح مقاوم لقيصر، لذلك أرسل بيلاطس عددا كبير من الجند كى يحضروا "المشاغب" الذى يثير الفتنة.
وعندما وقف المسيح أمام الوالى الذى سأله: أأنت ملك اليهود؟ رد عيسى: أنت الذى تقول، وكان الوالى معتادا فى العيد أن يطلق أسيرا يطلبه الناس، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس، ففيما هم مجتمعون قال لهم الوالى بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم؟ باراباس أم يسوع الذى يدعى المسيح، لأنه علم أنهم أسلموه حسدا، لكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع، فأجاب الوالى: مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ فقالوا: باراباس، قال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الذى يدعى المسيح؟ قال له الجميع: ليصلب، فقال الوالى: وأى شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليصلب، فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شىء، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: إننى برىء من دم هذا البار أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا.
سبت النور.. فى انتظار النجاة
فى هذا اليوم يختلط الحزن بالفرح، فالمسيح بعد عشائه الأخير والقبض عليه ومحاكمته وإصرار اليهود على التضحية به وعجز الوالى الرومانى فى إقناعهم بأن هذا الرجل لا يريد شرًا بأحد ثم خضوعه فى النهاية، بسبب خشيته من الشغب الذى من الممكن أن يثيرونه هؤلاء اليهود فى يوم العيد، لكن بعد عملية الصلب والموت، على حد قول الأناجيل، أضىء قبره يوم السبت دليل على أثره الكبير، وفى الحقيقة لقد كان تلاميذه فى حاجة ضرورية لهذه المعجزة، فاليهود كانوا يعيشون نوعا من سكرة الفرحة بالانتقام من المسيح وظنوا أنهم بهذه الطريقة قد قضوا تماما على أفكاره المحبة البعيدة عن جشعهم المادى، واعتبروا أن موته ودفنه هو آخر ما يسمعه الناس عن ابن مريم، لكن إرادة الله كان تدل على غير ذلك، ظلوا هم يحملون دمه وظل هو كلمة من الله فى هذه الأرض.
ونحن جميعا ننتظر أن يأتي سبت النور على العالم ويخرج من قمقم الخوف الذى سجنه فيه ذلك الملعون كورونا.
عيد القيامة.. الحياة تبعث من جديد
ويأتي عيد القيامة على المسيح خارجا من قبره يحمل صليبه صاعدا إلى السماء، وينتهى أسبوع الآلام بالفرحة الكبرى.
كذلك يحلم العالم بأن يأتى عيد قيامته ويخرج من ذلك الوباء مستعيدا حياته مرة أخرى ومستفيدا مما قد وقع له.