أمسك الخديو عباس حلمى الثانى بالإشارة الرسمية التى وصلته حالا من «الباب العالى» فى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، يوم 20 إبريل، مثل هذا اليوم، 1897، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا فى الجزء الثانى من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
كان «شفيق» رئيسا لديوان الخديو عباس الثاني، ويذكر قصة هذه الرسالة من موقع الشاهد عليها، مؤكدا أنها حملت أمرا «بالتنبيه على الرعايا اليونانيين فى مصر بتصفية مصالحهم والرحيل من القطر المصرى، وإلا اعتبروا من الرعايا العثمانيين».
كانت مصر تخضع لسلطتين وقتئذ، سلطة الدولة العثمانية من الآستانة، وسلطة الاحتلال البريطانى من لندن، وبين السلطتين توجد سلطة ثالثة فى القاهرة ممثلة فى الخديو، لكن قرارها مرهون بإرادة الإنجليز والعثمانيين، وكانت الإشارة التى تلقاها الخديو من الباب العالى نموذجا فى ذلك، فهى أمر له وعليه التنفيذ.
تبدأ قصة الرسالة منذ أن بدأت شرارة النزاع بين تركيا واليونان.. يذكر شفيق: «منذ أوائل شهر مارس 1897 بدأت تقع حوادث عدائية بين اليونان وتركيا فى جزيرة كربت، ففكر كثير من أكابر المصريين فى جمع إعانة مالية بواسطة الاكتتاب، وإرسالها للدولة مدفوعين بعاطفة نحوها».
كانت جزيرة «كربت» تخضع لسلطة الدولة العثمانية، لكنها ذات غالبية يونانية، وحدثت اضطرابات فيها تطالب بالانضمام إلى اليونان، وتعقدت الأمور باحتلال اليونان لها، مما دفع الدولة العثمانية إلى إعلان الحرب على اليونان فى 18 إبريل 1897 وهى المعروفة تاريخيا باسم «حرب الثلاثين يوما».
يتتبع «شفيق» حالة الاكتتاب التى تمت لصالح الدولة العثمانية، قائلا: «فى 11 مارس 1897 قدم إلى السراى وفد يمثل اللجنة الفرعية التى تكونت لهذا الغرض، وأعضاؤه «قره جوللى بك الرئيس، ومحرم بك حقى أبوجبل، وعثمان بك عبد الحميد، وقابلوا الخديو وعرضوا عليه التماسا بأن تكون أعمال الاكتتاب تحت رعايته، فقبل سموه ذلك وشكرهم على جهودهم، وكان الكثيرون يترددون قبل ذلك فى الاشتراك فى هذا العمل، فلما قبل سموه رعاية هذا الاكتتاب، ازداد المشتركون فيه، حتى جمعت مبالغ مالية كبيرة فى مدة وجيزة».
يضيف «شفيق»: «تأسست لجنة لجمع التبرعات برئاسة مصطفى رياض باشا الذى وفد على السراى بصحبة الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر يوم 16 إبريل وبعض أعضاء اللجنة، فقابلوا الخديو وأبلغوه ما تم فى تشكيل اللجنة والتبرعات التى جمعت، ورجوه أن يشمل هذا الموضوع بالتفاته السامى، ويقول «شفيق باشا»: «فى اليوم التالى أرسلت الخاصة ألفين وخمسمائة جنيه للإعانة العسكرية التركية، وعلى أثر ذلك تبرع أفراد الأسرة الخديوية بمبالغ كبيرة وحذا حذوهم سائر رجال المعية، وتألفت عدة لجان أخرى من الشبان وكريمات السيدات اللواتى رجون حرم رياض باشا قبول رئاسة لجنتهن فقبلتها، وأخذت فى جمع الاكتتابات، وفكرت اللجنة العامة فى أن الكثيرين من الفقراء قد يريدون التبرع فيمنعهم الحياء من دفع مبالغ صغيرة، فوضعت صناديق مقفلة فى المساجد وفى بعض المحال التجارية، ليضع فيها كل من شاء، ما تجود به نفسه تسهيلا لاشتراك الجميع».
يذكر «شفيق» أن أخبار المناوشات بين تركيا واليونان كانت ترد تباعا إلى سراى الخديو، وفى يوم 18 إبريل 1897 تلقت من الباب العالى برقية بإعلان الحرب رسميا، وذلك بعد أن حشدت الدولتان جيوشهما على الحدود، وفشل الدول الأوربية فى وقف النزاع.. يضيف «شفيق»: «هذه البرقية ذكرت أن اليونانيين اخترقوا الحدود، واعتدوا على الجيش العثمانى، فاضطر لإعلان الحرب رسميا».
فور الإعلان عن الحرب زادت حركة التبرعات فى مصر لتركيا العثمانية.. يؤكد «شفيق باشا» أن المبلغ الذى تم جمعه بلغ نحو خمسين ألفا جنيه، ويكشف أن الأمر لم يتوقف عند حد التبرع بالمال، وإنما امتد إلى قيام بعض ضباط الجيش المصرى المتقاعدين بالذهاب إلى «الغازى مختار باشا» مندوب الدولة العثمانية فى مصر، ملتمسين قبول تطوعهم فى الجيش العثماني، كما تطوع كثيرون من الشبان المصريين والأطباء فى الجيش.
فى 20 إبريل 1897 وردت الإشارة الرسمية من الباب العالى إلى الخديو حول وضع الجالية اليونانية فى مصر.. يقول شفيق: «تقرر بعد المداولة بين الخديو ورجال المعية والنظار أن يخير الرعايا اليونانيين بين البقاء بصفتهم من الرعايا العثمانيين، أو الاحتماء بعلم من أعلام الدول الأخرى كإنجلترا أو فرنسا أو روسيا مدة الحرب، واختار اليونانيون أن يستظلوا بالحمايات الأجنبية، وزار المندوب السامى البريطانى اللورد كرومر الخديو عباس حلمى الثانى وأبلغه القرار».