نقلا عن العدد اليومى...
من الدين إلى الفلسفة إلى السياسة، يأخذنا الأنبا يوحنا قلتة، النائب البطريركى للكاثوليك، الحاصل على الدكتوراة فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية، فى رحلة طويلة خلال ساعة من النقاش أدلى فيها بآراء مستنيرة عن علاقة الدين بالمجتمع.
وقد رأى الأنبا يوحنا أن العلمانية حل للتقدم فى العالم العربى، واعتبر أن الدين تحول إلى سلعة، ووجه رسالة للرئيس السيسى اعتبره فيها هبة من الله لشعب مصر، ورفض تجريم المثليين، مطالبًا بفتح باب التوبة أمامهم، وإلى نص الحوار..
كيف تقيم علاقة الدين بالفرد فى المجتمعات العربية؟
- بالرغم من أننى رجل دينى مسيحى، وصاحب منصب فى الكنيسة، فإن لى موقفًا خاصًا شخصيًا، هو أن مصيبة العصر هى تحول الأديان لأيديولوجيات وليس إلى إيمان، نحن ننسى أن الله سعى للإنسان، الأنبياء لم يختاروا الله، بل هو من اختارهم فى جميع الأديان، لكن فى هذا الزمان صار الدين أيديولوجية عسكرية وطقسية، وأفرغت الدنيا إلا قليلًا من معنى الإيمان والأخلاق، فالتدين سهل، والسارق يدخل ليسرق ويقول «استرها يا كريم»، ويسترها معه الكريم عدة مرات، وتاجر المخدرات يقتل البشر ويبنى مسجدًا أو كنيسة، هذا تدين، أما الإيمان فشىء آخر، فهو موقف أخلاقى، والعلوم الدينية التى نتعلمها، مسلمين وأقباطًا، علوم طقسية فقط.
كلامك يعنى استبدال كتاب الأخلاق بمادة الدين فى المدارس؟
- من اللازم، ليس لنا خيار، فلنعلم أولادنا معنى الإنسانية، وكرامة المرأة والإنسان، أما إذا علمناه الصلاة فهو دين فقط.. نحتاج لإعادة صياغة الوجدان العربى، مسلمًا ومسيحيًا، وما زلنا فى الشرق نعيش العصور الوسطى، وكيف يقبل المؤمنون العرب رؤية المئات يعيشون فى المقابر وهناك من يبنى قصورًا على البحر؟، أى إيمان لدينا؟.. يقولون لى هذه شيوعية، فأرد بأن الدين شيوعية روحية، وأمام الله يتساوى الفقير والغنى.
من خلال دراستك للإسلام، هل تظن أن الإسلام يعيش العصور الوسطى التى عاشتها الكنيسة بعد سيطرة التيارات المتشددة؟
- كرست 15 عامًا من حياتى لدراسة الإسلام، ولا أفهم لماذا يربط المسلمون الإسلام بالغزوات والقتل والحرب والموت، والإسلام ليس كذلك.
ألا ترى أن الكنيسة أيضًا عادت لتلعب دور وكيل الله فى الأرض من خلال كهنتها ورجالها؟
- الكنيسة فى العصور الوسطى اضطرت للتخلى عن سلطاتها، واليوم فى أوروبا رجال الدين تخلوا عن الزى الكهنوتى رغم رمزيته، والصلاة اختصرت إلى حد كبير، ولم يصبح الإنسان رهين رجل الدين.
لماذا تقف الكنائس الشرقية فى نفس المنطقة التى تركتها أوروبا منذ سنوات وتسيطر على الشعب؟
- لأننا مسلمون فى الشرق، نحن نصف مسلمين ونصف مسيحيين، نتاج تأثرنا بالثقافة.
هل الدولة جادة فى مسألة تجديد الخطاب الدينى؟
- ليست جادة، وليست هناك جدية لدى كل من يدعون ذلك، نحن نحتاج لتجديد ثقافة رجال الدين، وشئنا أم أبينا سيأتى عشرات من نصر حامد أبو زيد، وعشرات من إسلام بحيرى، وفرج فودة، لأنه تيار الحضارة المتدفق، إنما التيار السلفى فما زال مسيطرًا على مجتمعنا، أنا لست ضد الدين، بل أقف مع حرية الإنسان، «لكم دينكم ولى دين».
كثير من رجال الدين يعتبرون النقد والتفكير ضد الدين، ما رأيك؟
- لا يخضع الدين للمنطق العلمى وإلا «روحنا فى سين وجيم»، دائرة الدين مغلقة، هى دوائر القلب والإيمان، ولكن هذا لا يعنى تحكم رجال الدين فى سرقة ضمائر الناس، يفرضون شرائع ليست من الدين، ويفسرون تفسيرات لا علاقة لها بالدين، مشكلة الأديان هى رجال الدين، وهناك فرق بين رجل الدين المثقف والمستنير، ورجل الدين المهنى الذى يعمل كرجل دين.
ما السبيل لعلاج الخلل فى ثقافة رجال الدين؟
- هذا ما جرى فى أوروبا، حمل الفلاسفة رؤوسهم على أيديهم، ووقفوا فى وجه السلطة وضد رجال الدين والملك، دفاعًا عن وحدة الجنس البشرى، فالمسلم ليس أفضل من المسيحى، والمسيحى ليس أفضل من البوذى، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة، بالإضافة إلى استخدام العقل، بمعنى تفهم أجمل ما فى الدين، وكذلك حرية التفكير، ومتى نصل إلى هذا.
- هل يتحمل رجال الدين مسؤولية دخول تيارات الإلحاد للمجتمعات العربية؟
- ليست مسؤولية رجال الدين وحدهم، الأمية أشد فتكًا على المجتمع من السرطان، الأمىّ ربع إنسان، فهو أعمى، وينبغى أن نحارب الأمية كما فعل طه حسين منذ سنوات طويلة.
ألا ترى أن الدين يحتاج إلى التحرر من سيطرة الخرافة؟
- الخرافات لن تنتهى، رغم ثقافة البعض العالية فإن الناس تحب الغيبيات، ولديها فضول تجاهها، وعندما يكون الإنسان مثقفًا يسمع ولا يقتنع، فالأساطير موجودة والخرافات فى كل الأديان.
على ذكر الأساطير.. بابا الفاتيكان اعتبر قصة آدم وحواء أسطورة، ما رأيك؟
- القصة أسطورية كما عبر عنها العهد القديم، ولكن آدم وحواء حقيقة تاريخية، واشتراك القصة مع الأساطير القديمة أمور ثانوية، وما قصده بابا الفاتيكان يعنى أن أصلنا واحد.
إلى أى مدى تأثرت الكنيسة الكاثوليكية بالحضارة الغربية؟
- الكنيسة الكاثوليكية استفادت من الحضارة الغربية، وبها جميع التيارات، ففيها من يؤمن بالكتاب المقدس ومن يرفضه، ومن يقبل المعجزات ومن يرفضها، وهكذا، وهذا التعدد والتنوع يتعايش معًا، وهو ما ينقصنا فى الشرق، ولكنها تأثرت سلبًا أيضًا، ونرى انفلاتًا واضحًا فى علاقات الزواج بأوروبا.
كيف تنظر الكنيسة الكاثوليكية لعلاقة الدين بالسياسة؟
- لم يستخدم أى من الأنبياء الدين فى السياسة، بل العكس، استخدموا السياسة لخدمة رسالتهم، وتدخل الدين فى السياسة سيسىء لرسالته، ولن نتقدم إلا بالعلمانية، لنا 1500 سنة مسلمين و2000 سنة مسيحيين فى الشرق ولم نتقدم، ولا بد من ثقافة علمانية، وهى ليست ضد الدين بل استخدام العلم والعقل.
بابا الفاتيكان قال عن المثليين «من أنا لأحكم عليهم» كيف تقيم الأمر؟
- المثليون بشر، ما بهم من ميل جنسى لنفس الجنس هل هو مرض أم تربية أم ثقافة؟، مهما يكن من أمر نحن لا نحاكم الناس بل الفعل، وهو مشين ومرفوض من الأديان، ولدينا آية واحدة «الذين يضاجعون الذكور لا يدخلون ملكوت السموات»، لكن الإنسان له احترامه، سواء كان ملحدًا أو مثليًا، وكرامة الإنسان لا يلغيها ضعفه، ورجال الدين يعاملونهم باستعلاء وهو عيب، لأن الله لم يحكم عليهم حتى الآن، وعلينا أن نترك لهم طريقًا للتوبة.
هل هناك مانع دينى فى قضية رسامة المرأة قسيسة؟
- المانع تقليدى وليس دينيًا، والفاتيكان لا يستطيع أن يكسر تقليدًا راسخًا منذ آلاف السنين، وبدأت المرأة تأخذ خطوات فى الخدمة بالهيكل وتوزيع الأسرار، ولا أرى شخصيًا مانعًا فى رسامتها، ولكن البيئة لا تصلح حاليًا.
ما رأيك فى الزواج المدنى؟
- نريد لنا قانونًا مدنيًا للأحوال الشخصية، «ما نعقل بقى» ونصدر قانونًا للدولة، يخضع له المسلم والمسيحى، أما باقى الطوائف فعليها أن تقدم لوزارة العدل تحفظاتها التى تريدها، وعلى القضاة احترام عقد الزواج، فإذا عقد الزواج كاثوليكيًا يعالج القاضى الموضوع كاثوليكيًا وهكذا.
هل تعنى أن الزواج المدنى مخرج لكثير من مشاكل الأسرة المسيحية؟
- ليس فقط الأسرة المسيحية، بل هو احترام لكرامة الإنسان، الذى يريد أن يتزوج زواجًا دينيًا فهو حر، والزواج المدنى حل آخر، وبما أننا كمسيحيين أقلية، يخشى بعضنا أن يتزوج الأقباط زواجًا إسلاميًا، لذلك يرفضون الزواج المدنى وكـأنه فخ، وهو تصور خاطئ، والدولة تحتاج لقانون واحد يحترم فى بند خاص تحفظات كل طائفة مسيحية.
«لا طلاق إلا لعلة الزنى».. هل هى آية فى الإنجيل؟
- نعم والمسيح واضح فى ذلك، وما علينا البحث عنه هل الزواج تم بطريقة صحيحة أم لا، شروط المسيحية فى الزواج التوافق والرضا والقبول، و70% من الزيجات تتم بسبب الماديات، والزواج فى أصله ليس صحيحًا، وعلى الكنيسة أن تطبق الإنجيل مع احترام حرية الإنسان.
فى رأيك، هل كورسات المشورة التى تسبق الزواج حل للزيجات الفاشلة؟
- هى خطوة من الحل، هناك فى أوروبا مكاتب تستقبل المقبلين على الزواج لتعلمهم أسس الارتباط، وهى مفيدة، لكنها لا تكفى.
كورسات المشورة توفر للمقبلين على الزواج ثقافة جنسية، هل يحتاج الناس ذلك؟
- نعم، نحن كمسلمين ومسيحيين لا نعرف الثقافة الجنسية، ونسميها «لا مؤاخذة قباحة»، والتراث العربى يحفل بذلك، فيعتبرون المرأة إناء ومتعة للرجل، وهذه الثقافة ينبغى أن تباد، فليس فى جسد الإنسان عيب، والله لا يخلق شيئًا قبيحًا أو نجسًا، النجاسة فى الضمير.
هل يحل قانون بناء الكنائس مشاكل بناء الكنائس فى مصر؟
- هذا القانون يمثل نقطة سوداء، ماذا يضير المسلم من بناء الكنائس، حين أرى كنيسة أو مسجدًا فى قرية أشعر بالأمان، والقانون وصمة عار على القوانين العربية، والسماح للكنائس بالبناء ليس منحة أو «سلفة»، بل هو حق من حقوقنا، وواجب على الدولة أن توفره لنا، وادعاءات الأمن باحتمالية حدوث احتكاك طائفى «كلام فارغ»، وعلى الدولة أن تسمح للمسيحيين أن يبنوا ما يشاءون من كنائس.
كيف تنظر للقاء البابا تواضروس بملك السعودية؟
- ذكاء شديد فى الدبلوماسية المصرية، لأن اللقاء يوجه رسالة مفادها أن مصر بلد التعايش واحترام الأديان.
ما رأيك فى وضع المسيحيين المصريين حاليًا؟
- هم والمسلمون واحد، ما يقع على المسلمين يقع عليهم، وأقول لإخوتى من بنى وطنى مصر «بطلوا حكاية قبطى ومسلم»، لأن حقى مثل حقك، وكلنا شعب واحد، والإسلام أعطانى حقى، وإذا ظلمت وأخذوا حقى، سآخذ حقى بالإسلام من المسلمين، وإلى متى نظل مواطنين «درجة ثانية» فلا نحصل على مناصب عليا ولا رؤساء جامعات؟!
كيف تقيم فترة حكم الرئيس السيسى؟
- السيسى رجل وطنى مئة بالمائة، وأرى فيه مصر الحقيقية، وأرجو من الرئيس أن يحسن اختيار وزرائه، وأن يستعين بالشباب، وأن يعطى وقتًا أكثر للداخل، وعشقى للسيسى دائم، وأرى أنه هبة من الله لمصر، وأوجه له رسالة أقول فيها: «وحياة أبوك ياريس انتبه شوية للغلابة، وأتوسل إليك ألا تيأس منا وألا يصيبك الإحباط من شعبك».
ما رسالتك للمسيحيين فى عيد القيامة؟
من أجمل ما قرأت فى الإسلام أن المسيح بعث، فسلام لك يا سيدى يسوع المسيح، وسلام لك أيها الرسول الكريم، وسلام على القرآن والإنجيل وكل من يؤمن بالقيم الدينية والروحية.