غضب الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري من سؤالي.. طالبني بإنهاء الحوار والانصراف.. لملمت أوراقي وأغلقت جهاز تسجيلي بثبات، وقمت في طريقي للانصراف لكنه عاد وطالبني بالجلوس.
كنا في يوم 3 أبريل عام 1998، وكنت نائبا لمدير مكتب جريدة البيان الإماراتية بالقاهرة الأستاذ الكبير جلال عارف نقيب الصحفيين الأسبق.. كانت "البيان" وقتئذ من أكبر وأهم الصحف العربية اهتماما بالشأن السوداني، وكان الصديق الكاتب الكبير والشاعر السوداني عمر العمر رئيس قسم العربي والدولي بالجريدة هو الذي رتب لهذا اللقاء، لنشره ضمن شهادات لرموز سودانية في ذكري الانتفاضة ضد حكم نميري والتي انتهت بعزله يوم 6 أبريل 1985 وتولي الفريق سوار الذهب قيادة البلاد لفترة انتقالية.
ذهبت إليه صباحا في مقر إقامته بفيلا بمصر الجديدة تابعة لرئاسة الجمهورية، وفي انتظاري له بحجرة الاستقبال لفت نظري صورة له معلقة علي الحائط وهو ضابط يشمر قميصه الكاكي فيظهر مفتول العضلات وكأنه بطلا للملاكمة.. لاحظ تأملي للصورة حين دخل مرحبا، وكان يرتدي زيه السوداني التقليدي، ثم استجاب لاقترح صديقي الصحفي محمد سليمان فايد بتصويره وهو يقف أمامها، وسأل مداعبا:"عاوزين تقارنوا بين الشباب والشيخوخة؟".
دخلنا في دردشة عامة تمهيدا لبدء الحوار..كنت أدرك أنني أمام رئيس سابق لن يسلم بأخطاء سأذكرها له وأدت إلي إزاحته من الحكم بعد 16 عاما، وتأكد توقعي من أول سؤال طرحته عليه، وتدريجيا وطوال مايقرب من ساعتين تصاعدت أسئلتي حتي تملكه الغضب مني، وطالبني بإنهاء الحوار والانصراف، لكنه عاد وطالبني بالجلوس.
بدأت معه بسؤاله عن انتفاضة الشعب السوداني ضده، فتولد من السؤال أسئلة طرحها هو وطرحتها أنا.. سألني :"متي حدث ذلك؟ ..قلت: يوم 6 أبريل 1958 ..رد ساخرا ومستنكرا: ماهو 6 ابريل .. ماذا تعرف عنه؟ ..قلت له : يوم ذروة الانتفاضة الشعبية ضد حكمك وتولي المشير سوار الذهب السلطة.. رد :والله ما أعرفه.. كويس جدا إنك قلت لي انه يوم 6 ابريل.. أنا انتهيت منه.. لم أعد أتذكره.. انت الآن تذكرني به.. نسيت هذا اليوم.. هو انقلاب لا انتفاضة.
قلت: 12 سنة مرت على الانتفاضة.. قاطعني: قلت لك هي انقلاب ساهم في تأخير السودان سنوات طويلة." سألته : لماذا؟ ..أجاب :كانت هناك خطط موضوعة تنتقل بالوطن إلى ما يريده كل سوداني وكل عربي، ولكن تأخرنا كثيرا..هم أرادوا أن يعرفوا ما حدث مني أثناء حكمي، وأخذ هذا منهم وقتا كبيرا جدا جدا وبعد ذلك أرادوا أن يبدأوا، لكنهم كانوا خاصموا الدول المجاورة وخاصة مصر، ونسوا ان مصر أهم دولة عربية وأهم دولة لأمن السودان وأهم دولة إسلامية، وقريبة جدا من السودان، وتربطها بها روابط عائلية وحضارية وانسانية ،ولا يمكن أن تكون هناك قطيعة بين البلدين.
ظل "نميري" يهاجم انتفاضة 6 أبريل وأنا أناقشه في أسبابها.. قلت له :كانت هناك معارضة لحكمك تكبر يوما بعد يوم.. رد :"لم تكن هناك معارضة.. الناس كانت مبسوطة وسعيدة، الحقيقة إن شلة من الضباط قامت بالانقلاب ضدي".. سألته: لماذا لم تلجأ إلي القاعدة الشعبية لمساندتك طالما هي مبسوطة؟..أجاب: "بعض الدول الكبرى كانت ترى بقاء حكمي خطراً عليها، الغرب لم يعد يريدني، لأنني اعتمدت القوانين الإسلامية، وعملت لذلك لجان، وغيرت كل القوانين الموجودة من وقت حكم الانجليز ولذلك قاموا بدعم التآمر في السودان على ألا أرجع، وأنا كنت قررت عدم الرجوع، طالما حصل انقلاب، وهناك من لا يريدني حتى لو قلة.. قررت هذا مع نفسي خاصة أن قبلها بأربع سنوات كنت لا أعتزم الاستمرار بإعادة ترشيح نفسي في الانتخابات الرئاسية، لولا الشعب خرج في مظاهرات كبيرة وحاشدة."
سألته :إذا كنت زاهدا في الحكم علي هذا النحو فلماذا تحالفت مع الترابي؟.. سألني: "من قال لك هذا؟ ..قلت: الحقائق علي الأرض هي التي تقول هذا وقوانين الشريعة التي ذكرت أنك طبقتها؟.. قال :"لا.. يعني.. من قال لك أنا تحالفت مع الترابي.. والله أنا شايف الناس دول أحسن من المعارضة في الخارج.. تحالف.. تحالف"
نبهته :كلامي عن تحالفك مع الترابي وقت حكمك قبل انتفاضة 6 أبريل وليس الآن وفي تقديري أنه قصر الطريق لانفصال الشمال عن الجنوب ؟..غضب.. احتد.. بدا وكأنني نكأت جرحا.. قال: "خلاص، خلاص.. انتهينا، مفيش حوار، قوم امشي.. جنوب وشمال".
لملمت أوراقي وجهاز تسجيلي.. وقفت متهيئا للانصراف، لكنه طالبني بالجلوس، استجبت.. هيأت نفسي لمزيد من الاشتباك.. قال متسائلا :"انت بتقول.. تحالفت مع الترابي.؟ ..قلت: إذا كان تعبير التحالف يغضبك.. دعني أقول لك بصراحة..قاطعني: "صراحة.. صراحة.. أنت تقول هذه الكلمة لكن ما شايف عندك صراحة.. قولي الصراحة بتاعتك إيه" ..قلت: صراحتي أنك استخدمت ورقة الدين والشريعة في محاولة لإعادة شعبية انتهت؟.
زاد غضبه :"هذا غير صحيح.. من أنا حتى استخدم الدين؟.. أنا أتيت من الدين الإسلامي، ورجعت إليه.. أنا لم استخدم الدين الإسلامي في شيء مما تقوله، ولكن وجدته هو الأساس، كيف أصلي ؟.. كيف أصوم؟.. (بلشت) (تركت) الشرب، كل شيء يغضب الله ابتعدت عنه.. بعد أن رأيت في سنوات حكمي الأولى معجزات لا يصنعها إلا الله سبحانه وتعالى.. حفظت كثيراً من القرآن وتعلمت من الدين الاسلامي ولم استغله في شيء، وخطبت الجمعة خمس أوست مرات، ليس هذا فحسب.. كانت هناك مؤامرة من بعض الجنود تحاك ضدي لقتلي، ونجوت منها بمعجزة، والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى.. كان فيه خطة لقتلي وأنا في طريقي إلى دخول بيتي وفشلت لأنني تأخرت ساعة عن الموعد، ونجوت مرة أخرى وأنا عائد من إيطاليا والسبب أن موعد وصولي تقدم ساعة."
سألته :ماذا يعني ذلك؟.. أجاب: يعني أن قوة خارقة هي التي تتحكم في تحديد هذا المسار.. آمنت أن الله الذي ساندني وأنقذني في المرتين.. والمرة الأخيرة كانت مفروض أن تتم في المطار وكان القذافي مشاركاً فيها.. كلها أشياء عجيبة.. من أنا حتى استخدم الدين؟".
انتقلنا في الحديث إلي قضايا أخري.. سألته عن تقلبه بين عبد الناصر والسادات، فهاجم "فاروق أبو عيسي "واتهمه بالشيوعية.. سألته عن الديمقراطية، فقال :"السودان كقبلية يحتاج الى رئيس ومستشارين لا يحتاج الى أحزاب".. غازل نظام البشير، فسألته ما إذا كان ذلك رغبة منه للعودة إلي السودان للعب دور سياسي، فشكا من قلة المال قائلا: "الدور الذي يمكن أن أقوم به يحتاج إلى مال، وأنا لا أعمل، وليس لي دخل مالي ثابت يمكن أن أدخر منه لأقوم بهذا الدور السياسي"
امتد الحوار إلي قضايا أخري، وبعد نهايته أثني علي رد فعلي وقت أن هدد بعدم مواصلة الحوار، وطالب صديقي محمد سليمان بأن يلتقط صورة لنا متصافحين بابتسام