ذهبت إلي المفكر الكبير الدكتور جلال أمين لأعرض عليه نص الحوار الذي أجريته معه قبل نشره، لكنه فاجأني بتمزيق الحوار وإلقائه في سلة المهملات.
كنا في عام 1987، وكان الحوار ضمن سلسلة خاصة لجريدة "صوت العرب" الأسبوعية برئاسة تحرير أستاذنا الكبير عبد العظيم مناف، ومحورها "مصر في التسعينيات".. كنت في سنواتي الأولي صحفيا، وكانت المرة الأولي التي التقي فيها بالدكتور جلال في فيلته الأنيقة بالمعادي.. كان يجلس في حجرة مكتبه المزودة بأرفف عليها عدة كتب،بالإضافة عدة كتب مبعثرة في أركان الحجرة، وعلي ترابيزة صغيرة كانت أقلاما وأوراق فلوسكاب وجريدة الأهرام مفتوحة علي مقال للمفكر الكبير الدكتور زكي نجيب محمود، وخطوط وضعها هو بقلم جاف تحت سطور في المقال ..سألني :"قرأت مقال الدكتور زكي؟" أجبت :"لا".. علق بضيق :"من فترة والدكتور زكي بيكرر نفسه، مش عارف إيه الحكاية؟.
لاحظت وجود كمنجة معلقة علي الحائط، فأوحت لي بفكرة صحفية أخري غير التي سأناقشه فيها، وأجريت الحوار الذي استمر حوالي ساعة ونصف، وطلب مني أن يراه بعد تفريغه من التسجيل وصياغته، وحين ذهبت إليه به، بدأ في قراءة النص المكتوب علي ورق دشت، لاحظت ضيقه من بداية قراءته للصفحة الأولي.. سألني :"أنا قلت الكلام ده؟"، أجيب: "نعم"، ومع كل صفحة كان يكرر السؤال، وبعد أن انتهي من قراءة آخر ورقة فاجأني بتمزيق كل الأوراق ورميها في سلة المهملات، مرددا :"أنا آسف، أنا آسف".
تملكني الغيظ، لكنه لحق أسفه بالقول:"معلهش، المشكلة عندي أنا، في إجاباتي أنا، انت مفيش عندك ذنب، واضح إن المشكلة في التسجيل، الأفضل تسأل وتكتب ".. أخرجني أسفه المتكرر من حالة غيظي، واقترح إعادة الحوار في الحال، وأحضر أوراقا وقلما، وبدأت أسئلتي، وقال إجاباته، وأذكر أنه ذكر نبوءة لا أنساها.. قال :"ربما نجد مزيدا من المباني الشاهقة لشركات ومراكز وفنادق عالمية علي ضفاف النيل، لكن أخشي أن تكون عنوانا لدولة الخدمات، وليست دولة الدور الحضاري، وهذا سيكون تراجعا وليس تقدما".
أعطاني هذا الموقف مفتاحا لفهم شخصيته، فهو كاتبا أقدر منه متحدثا، في حديثه يذكر كلامه علي مهل، ويطلب رأيك كنوع من المشاركة معه، أما في الكتابة فيمسك فكرته ويقدمها ببراعة ويوظف كل معلوماته وأفكاره وخواطره لصالحها، ويستطيع أن يشطب ويحذف حتي تكتمل فكرته بالطريقة التي يريدها.
كان هذا اللقاء مفتتحا لعلاقة توطدت ودامت معه حتي رحيله يوم 25 سبتمبر 2018، تخللها لقاءات كثيرة، بعضها كان لحوارات صحفية، وأكثرها كان لقاءات ودية إما في منزله بالمعادي أوفي مكتبه بالجامعة الأمريكية بالقاهرة لإهدائي كتابا جديدا له، أو للاطمئنان عليه، وكان آخر إهداءاته لي ثلاثيته التي تعد مذكراته الشخصية "ماذا علمتني الحياة؟" و"رحيق العمر" و"المكتوب علي الجبين".
خلال هذه الرحلة التي امتدت سنوات طويلة قام يتقديمي إلي شقيقه السفير والكاتب حسين أحمد أمين رحمه الله، وتوطدت علاقتي به هو الآخر، ونشرت لهما حوارين في مجلة "الشاهد" القبرصية، وفي حواري مع حسين سألته :"في رأيك من هو أهم مفكر في مصر؟"..أجاب :"طبعا أخي جلال أمين"، وشجعني قربي بهما علي البحث عن السر في ارتباط هذه العائلة بالفكر والثقافة، وعما إذا كانت الوراثة سببا، فالاثنان أبناء لمفكر كبير في تاريخ مصر هو الدكتور أحمد أمين، ولما عرضت الفكرة عليه ضحك قائلا :"انت كده حتبقي أخصائي تاريخ العائلة"، وبالفعل ساعدني بمعلومات غزيرة، وعرًفني بأسرة شقيقه "حافظ"، وكان كاتبا أيضا لكنه لم يحظ بشهرة جلال وحسين.
ظل مشهد آلة الكمان المعلقة علي جدران مكتبه عالقا في ذهني والذي رأيته في لقائنا الأول، وأوحي لي بفكرة حوار معه عن فترة التكوين، والجانب الآخر في شخصيته، ونشرته في مجلة "الشاهد، الشهرية، قبرص، أبريل 1990"..سألته عن الكمنجة ..أجاب :"أنا مغرم بالموسيقي ، أعزف علي الكمان منذ عام 1978 ..درست العزف عليه لفترة قصيرة، ولكني عملت نفسي بنفسي، أنا أحب الموسيقي بكل أنواعها، من الشرق أعشق زكريا أحمد ومحمد عثمان، ومن الغرب أعشق بالدرجة نفسها موسيقي القرنين السابع والثامن عشر، أعشق باخ أكثر من بيتهوفن، الموسيقي مناخ يعيش فيه كل أفراد أسرتي الصغيرة المكونة من زوجتي الإنجليزية ، وابني أحمد وشقيقتيه.. سألني :"انت سمعت صوت الكمان أثناء دخولك البيت"..أجبت: نعم ، قال:ابني أحمد كان هو اللي بيعزف".
سألته عما تعلمه من والده أحمد أمين..أجاب :"تعلمت قيمة التمسك بالمبدأ والتضحية، كان يردد دائما :من العار أن تعيش جبانا..كان مجلس العائلة يحفل بالكثير من قصصه التي تتناول موضوعات مختلفة جذبتني منها الحكايات التي تدور حول الأخلاقيات والسلوكيات الشخصية".
روي قصة خلاف والده مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، قال:"شاهدت وأنا طفلا طه حسين يتردد علي منزلنا كثيرا، وفجأة انقطع عن زياراته، فسألت والدي عن السبب، أجاب:"علي المرء عدم التضحية بكرامته، واسترسل في رواية الخصومة التي بدأت فصولها بعد أن أصبح والدي عميدا لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول بدلا من طه حسين الذي اقتصر علي تدريس مادة الأدب العربي، ومع هذا التغيير تصور طه حسين أنه يستطيع السيطرة علي العميد الجديد، حتي أنه حاول تعيين أحد مريديه في الكلية بقسم اللغة العربية، ورفض أبي لعدم جدارة هذا الشخص، مما أدي إلي القطيعة بينهما، وترك ذلك مرارة لاذعة عندي والدي الذي كتب مقالا بعنوان"صديق"، وعندما سمعت القصة غير مرة في أوقات مختلفة وبوعي يتطور ، أدركت قيمة ماقاله والدي وأنا طفل :"علي المرء عدم التضحية بكرامته"، كما فهمت منها عنف طه حسين، وحبه للسيطرة، ومرد ذلك إلي كرهه الدائم من أن يكون الشخص الثاني".
كشف لي سر توجهه العلمي إلي الاقتصاد قائلا:"ربما رغبة مني في معرفة حقيقة توزيع الدخل، وحقيقة الفروقات الطبقية الحادة، وبحثي الدائم عن إجابة لسؤال: من أين يأتي الفقر..كنت أنظر منذ طفولتي إلي الخدم في منزلنا ومنازل غيرنا بحساسة مفرطة، وظل سؤال يلاحقني :ماهي الظروف التي عسرت حياة هؤلاء البشر ويسرت أحوال أسرتي"، ووجهت نفسي لدراسة الاقتصاد بعد تخرجي من كلية الحقوق أملا في البحث عن إجابة علي هذا السؤال".
كشف عن دوره في تأسيس حزب "البعث" فرع مصر عام 1951 مع رفيق عمره الدكتور علي مختار، والتوسع في عضوية الحزب حتي وصل إلي ما يقرب من 200 عضوا من المثقفين والعمال، ثم تركه الحزب بعد ذلك وتحوله إلي تأييد جمال عبد الناصر منذ بدء تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي عام 1956.