ليس خافيا على أحد أن معدلات الثقة بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى ليست في أفضل حالاتها، فلم يقدم الجانب الأثيوبي ما يثبت حسن النية أو حتى بوادر تقدير أو احترام للمجتمع الدولي، وكذلك يتعامل الجانب الأثيوبي مع مسألة التفاوض حول آلية ملء خزان سد النهضة بشيء من الاستهتار والتهور، فمرة يصرح بأنه سيبدأ في ملء الخزان سواء ارتضت مصر والسودان أم لا، ومرة يدعي أنه سيحافظ على روح المحبة والأخاء بين أبناء القارة السمراء، ومرة يدعي أنه صاحب الحق الأوحد في مياه نهر النيل، ومرة يؤكد على عدم المساس بحقوق دول المصب، وفي حين أنه سد كل أبواب التفاوض وأوصد كل طاقات التفاهم المباشر أعلن غضبه من لجوء مصر إلى مجلس الأمن من أجل وضع حد للتعنت الأثيوبي مطالبا بحل المشكلة "الأفريقية" داخل البيت "الأفريقي" ومن خلال الاتحاد الأفريقي، وبرغم هذا وذاك لم تلتزم أثيوبيا يوما بما تقول، ولم تظهر ولو إشارة واحدة لجديتها ورغبتها الحقيقية في السلام.
تتعنت ثم تتشدد ثم تعد ثم تخلف ثم تستعرض ثم تتراجع ثم تتفاخر ثم تتخاذل ثم تتنمر ثم تتباكى، لا أحد يعرف ما الذي تريده أثيوبيا حقا من تلك الدائرة المربكة، تقول إنها تريد السلام، لكنها تدق طبول الحرب، تقول إنها تريد التنمية، ثم تبعث بإشارات الخراب، تقول إنها تريد المحبة ثم تغذي وحوش العداء، شمال، يمين، أعلى أسفل، على الأطراف حينا وفي المنتصف حينا، تلعب أو تتلاعب، غير مدركة أن تلك السلوكيات غير المفهومة تصيب 100 مليون مصري وأكثر من 40 مليون سوداني بالحيرة، وغير مدركة أن التلاعب بعشرات الملايين أمر لا يجب أن يمر هكذا دون أن تدق كل نواقيس الخطر.
كل ما حدث منذ اندلاع أزمة سد النهضة في جانب وما حدث أمس في جانب آخر، أعلنت أثيوبيا على لسان وزيرها للري البدء بملء خزان سد النهضة على النيل الأزرق دون موافقة مصر والسودان، تراجعت إثيوبيا ونفت على لسان وزير الري كل ما نسب إليها. بدورها أعلنت مصر أنها طلبت توضيحا عاجلا من الحكومة الإثيوبية.
وقال سيليشي بيكيلي وزير الري الأأثيوبي "هناك كثير من المياه تمر. هناك أمطار غزيرة والتدفق الداخل أكبر بكثير من الخارج". وتسبب ارتفاع منسوب المياه في نشر وسائل الإعلام المحلية والدولية المختلفة تقارير بأن إثيوبيا بدأت في ملء السد يوم الأربعاء، حسب المسؤول الإثيوبي، وبحسب ما ورد في موقع دويتش فيلا وفرانس 24 والعديد من وكالات الأنباء العالمية فقد أشارت أثيوبيا في وقت سابق اليوم إلى أن وزير الري الإثيوبي أكد أن بلاده قد بدأت عملية تعبئة خزان سد النهضة، رغم تعثر الاتفاق مع كل من مصر والسودان بشأن المشروع المثير للجدل. ونسب للوزير بيكيلي قوله إن المرحلة التي وصل إليها سد النهضة في إثيوبيا، تُمكّن من بدء عملية التخزين الأولي المقدر بـ 4,9 مليار متر مكعب، كما قال الوزير في تصريحات بثها التلفزيون في وقت سابق اليوم: "بناء السد وملء الخزان يسيران جنباً إلى جنب"
كل هذا أثار اهتمام العالم واستهجانه في آن، حيث ذكر موقع دويتش فيلا أن السد يمثل حجر الأساس الذي تبني عليه إثيوبيا طموحها في أن تصبح أكبر دولة مصدرة للكهرباء في أفريقيا. لكنه، في الوقت ذاته، أجج القلق في القاهرة من تراجع إمدادات المياه الشحيحة أصلاً من النيل، التي يعتمد عليها أكثر من 100 مليون نسمة بشكل شبه كامل، كما أشار الموقع إلى أن وسائل الإعلام المحلية والعالمية تناقلت معلومات وصور ملتقطة بالأقمار الصناعية تشير إلى بدء إثيوبيا في ملء خزان سد النهضة بالمياه قبل التوصل لاتفاق حول الملء الأول والتشغيل. وصرح مسؤول في موقع السد لوكالة الأنباء الفرنسية هذا الاسبوع أن هطول الأمطار الغزيرة يعني أن تدفق النيل الازرق يتجاوز قدرة قنوات السد لدفع المياه في اتجاه مجرى النهر، وهذا ما دفع وزارة الخارجية المصرية أمس الأربعاء إلى طلب إيضاحا رسميا عاجلا من إثيوبيا بشأن مدى صحة بدء ملء خزان سد النهضة على النيل الأزرق، وهذا هو أول رد رسمي من القاهرة بعد أن قال وزير المياه الإثيوبي في وقت سابق إن أديس أبابا بدأت ملء الخزان بعد يوم من إخفاق محادثات مع السودان ومصر بهذا الشأن
ثم كان المجتمع الدولي على موعد مع ارتباك جديد يضاف إلى المشهد يثبت أن نية أثيوبيا ليست خالصة وأنها غير جديرة بثقة المجتمع الدولي حيث اعتذر التليفزيون الأثيوبي عن ما أسماه ب"سوء تأويل تصريحات وزير الري الأثيوبي" وقال موقع اسكاي نيوز عربية إن "هيئة الإذاعة والتلفزيون الإثيوبية الرسمية نشرت تعديلا لما نقلته عن وزير الري في بلادها عن إعلان البدء في ملء سد النهضة، مقدمة اعتذارا عما سمته "سوء التفسير" للتقارير المنشورة على صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، وأكدت الهيئة أن إعلان وزير الري الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، ما هو إلا استمرار المفاوضات بشأن سد النهضة وأن المحادثات بشأن السد ستستمر لمصلحة إثيوبيا، وأن ملء السد سيتم وفقا لعملية البناء الطبيعية للسد. وقد تعمدت هيئة الإذاعة الأثيوبية في هذا البيان أن يزيد مساحات الغموض وأن تودر جمل مبهمة لا تشفي ولا تفيد، فلا أحد يعرف معنى جملة " وأن ملء السد سيتم وفقا لعملية البناء الطبيعية للسد" وهل تعني التزام أثيوبيا باتفاق الاتحاد الأفريقي بعدم التصرف بشأن ملء السد بشكل أحادي أم لا، ولا أحد يعرف هل عملية البناء الطبيعية للسد هذه تتضمن التوافق مع مصر والسودان أم تتضمن التصرف بشكل أحادي؟
هذا كله يثبت أن أثيوبيا لا تريد أجواء تمتاز بالشفافية والوضوح وأنها تتعمد اللجوء إلى لغة الغموض والتهويم، غير عائبة باتفاق الاتحاد الأفريقي ولا توصيات مجلس الأمن الداعية إلى عدم ملء خزان سد النهضة دون اتفاق ثلاثي بين مصر والسودان وأثيوبيا ودون أن تقدم أثيوبيا ما يضمن سلامة السد أو عدم التسبب في كارثة بيئية وحضارية في مصر والسودان سواء استمر السد أم تهدم وفقا لتوقعات العديد من الخبراء، ولهذا كله أرى أنه من الواجب الآن أن يتحرك المجتمع الدولي وأن يفرض رقابة دولية على أثيوبيا ليتأكد من أنها لن تتصرف منفردة في مسألة ملء السد دون وضع قواعد واضحة وأصول واجبة الاتباع، فقد أثبتت أثيوبيا أنها لا تريد علاقة يحكمها الوضوح والشفافية، وأنها ربما تريد بهذه التصرفات غير الحكيمة صرف النظر عن اضطراباتها الداخلية على حساب ما يقرب من 150 مليون مصري وسوداني، ولهذا كله أرى أنه من الواجب الآن أن يقوم مجلس الأمن بدور حقيقي يضمن عدم تسارع الأحداث وعدم تعقيد الموقف بإرسال لجنة دولية محايدة، تكون مهمتها مراقبة مراحل عمل السد والاطمئنان على عدم التصرف بشكل أحادي يؤدى إلى تفاقم الموقف وتحويل الخلاف على عداء.