كان الرئيس الأمريكى جورج بوش «الأب» على شاشات التليفزيون الساعة التاسعة صباحًا بتوقيت واشنطن يوم 8 أغسطس، مثل هذا اليوم 1990، وفى نفس الوقت تقريبًا الساعة الثالثة مساء بتوقيت القاهرة، كان الرئيس حسنى مبارك يوجه خطابًا هو الآخر، وكان الخطابان حول غزو الجيش العراقى للكويت يوم 2 أغسطس 1990.
بوصف الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «حرب الخليج، أوهام القوة والنصر»: «كانت نبرة بوش حازمة وقاطعة بشكل لا مثيل له منذ أن بدأت الأزمة، وقصد أن تتطابق تعبيرات وجهه مع صرامة كلماته.. قال: إننا نطلب انسحابًا فوريًّا وكاملًا وغير مشروط لكل القوات العراقية الموجودة فى الكويت، ومهمة قواتنا التى ذهبت إلى السعودية مهمة دفاعية، ونأمل ألا تدعو الحاجة إلى بقاء هذه القوات فى الخليج طويلًا. إن هذه القوات مكلفة بالدفاع عن نفسها وعن المملكة العربية السعودية، وعن كل أصدقائنا فى الخليج».
أما خطاب مبارك فكان بوصف هيكل «دراميًّا مؤثرًا».. مضيفا: «كان أبرز ما قاله مبارك، إن الصورة سوداء ومخيفة، وما لم نتدارك الموقف فورًا فإن الحرب حتمية، ثم راح يرسم صورة مفزعة لدمار الحرب ونارها وجحيمها، وقال إن أحدًا لا يعرف مخاطر الحرب كما يعرفها هو، فقد مر بأزمات مماثلة، وبخبرته العسكرية السابقة فإنه يستطيع أن يقول: إن الحرب المحتملة سوف تكون شيئًا رهيبًا وفظيعًا، ثم أنهى خطابه بقوله: ألا قد بلغت اللهم فاشهد».
جاء الخطابان بعد زيارة خاطفة لوزير الدفاع الأمريكى «ديك تشيني» (أصبح نائبا لجورج بوش «الابن») إلى السعودية ومصر، وكان للقائه بالعاهل السعودى الملك فهد، ثم الرئيس مبارك صدى فى الخطابين، فإعداد أمريكا مسرح تدمير العراق كانت خطته جاهزة، وكانت جولة تشينى من أجل ذلك.
يذكر هيكل أن بوش أراد أن يتثبت من تشينى حتى لا يستعمل فى خطابه أية عبارات يمكن أن تؤدى إلى حرج طرف من الأطراف، فتحدث تليفونيًّا مع تشينى قبل حديثه، وفكر تشينى بسرعة، وقال له، إن النقطة التى يجب التركيز عليها طبقًا لفهمه من الملك فهد أن قواتنا ذهبت إلى المملكة العربية السعودية بناء على طلب سعودى، وأنها سوف تغادر المملكة فور أن تطلب منها الحكومة السعودية ذلك.
أما خطاب مبارك بلغته الدرامية وختامه له بقوله: «ألا قد بلغت اللهم فاشهد» فكانت تعبيرًا عن شىء خفى عرفه هو.. يذكر هيكل: «راجت فيما بعد مقولة بأن الرئيس مبارك بالغ فى كآبة الصورة قبل الأوان، وأعطى الإيحاء بأن الضربة واقعة فى ظرف أيام، ولم تكن هذه المقولة تشخيصًا دقيقًا للمناخ الذى تحدث فيه، والواضح أن اللهجة التى تحدث بها كانت لهجة رجل أتاحت له ظروفه أن يطل بنظرة على الخطة «0012-090 «(خطة تدمير العراق) من لقائه مع تشينى فى اليوم السابق، وهاله ما رأى، وتمنى لو أمكن توقِّيه مع علمه بسبق الإصرار عليه، وجرت الكلمات على لسانه ولأن خطابه كان مرتجلًا فإن السر تسرب إلى اللفظ، لم يكن فى حل أن يفشى هذا السر فكتمه، ولكن البخار المكتوم سرى بالرغم من كل شىء، وشاع فى التعبيرات، ذلك أن الأمل ظل يراوده بأن المعجزة ممكنة إذا خرج العراق من الكويت فورًا وبلا قيد أو شرط».
كان خطاب مبارك فى هدفه الأساسى دعوة إلى مؤتمر عربى على مستوى القمة فى القاهرة فورًا، وكان الرئيس الليبى معمر القذافى أول القادة العرب الذين وصلوا بعد ساعات من الخطاب.. يكشف هيكل أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فى تونس كانت تتابع باندهاش، وعقب أمينها العام الشاذلى القليبى: «إنها أول مرة توجه فيها الدعوة إلى اجتماع على مستوى القمة بواسطة الإذاعة، وكانت تلك طريقة مهذبة يقصد بها الأمين العام إلى القول بأن الأمانة العامة لم تستشر، ولم يطلب إليها ترتيب الاجتماع بما فى ذلك توجيه الدعوة إليه، خصوصا أنها المسؤولة عن تنظيمه وتطبيق لوائحه، وطلبت الخارجية المصرية منه المجىء إلى القاهرة على الفور لأداء دوره، ورد بأنه ليست هناك طائرات فى الليل بين القاهرة وتونس، فتقرر إرسال طائرة ليبية إليه. واللافت وفقًا لما يقوله «هيكل» أنه بينما كان القادة العرب فى طريقهم إلى القاهرة، كانت «إمكانيات الوصول إلى حل عربى للأزمة تتلاشى، فالمغرب أرسل قوات إلى السعودية، وراحت مصر تستعد لإرسال مقدمة إدارية تستطلع أماكن إيواء القوات عندما يجىء وقت تمركزها فى السعودية».