نسمع دائما جملة "فى اختلافهم رحمة" تقال عند الحديث عن اختلاف القهاء، لكن يبدو أن الأمر أكبر من ذلك، وأن هناك قواعد علمية فى المسألة، ومن ذلك ما عرض له بحث علمى بعنوان "اختلاف الفقهاء.. وأثره فى اختلاف العاملين للإسلام" للدكتور عبد الله الفقيه، يتناول هذه القضية ويضع تحت عنوان "فى أسباب حصول الخلاف عند الفقهاء" عددا من الأسباب هى:
السبب الأول:
عثور البعض على دليل لم يعثر عليه الآخر
يقول ابن القيم وهو يتكلم عن أسباب حصول الخلاف: "منها أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلَّف أن يكون عالماً بموجبه، فإذا لم يبلغه وقد قال فى تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب فقد يوافق الحديث المتروك تارة ويخالفه أخرى، وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأحواله وخصوصاً الصديق الذى لم يكن يفارقه...".
السبب الثاني:
هو كون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده لضعف من رواه عنه لكونه مجهولاً أو سيء الحفظ أو متهماً، ويكون هذا الحديث بعينه قد ثبت عند غيره لكونه قد رواه له الثقات بالسند المتصل.
السبب الثالث:
اعتقاد أحدهم ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، فقد يعتقد أحد الأئمة ضعف رجل ويعتقد آخر قوته ويكون الحق تارة مع المضعِّف لاطلاعه على سبب خَفِى على الموثق، ويكون تارة مع الموثق لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح فى روايته وعدالته، إما لأن جنس ذلك السبب غير قادح أصلاً، وإما لكونه له فيه عذر أو تأويل يرفع عنه الحرج بسببه.
وقد يكون للمحدث حالان حال استقامة وحال اضطراب فيحكم الموثق بأن الحديث صحيح ظناً منه أنه مما رواه فى حال الاستقامة، ويحكم القادح بأنه ضعيف ظناً منه أنه مما رواه فى حال الاضطراب وهنا يأتى دور أهل التحقيق والتدقيق.
السبب الرابع:
اشتراط بعضهم فى خبر الواحد العدل شروطاً يخالفه فيها غيره كاشتراط بعضهم أن يكون الراوى فقيهاً إذا خالف ما رواه القياس، واشترط آخرون انتشار الحديث وشيوعه إذا كان مما تعم به البلوى.
السبب الخامس:
أن ينسى الحديث أو الآية كما نسى عمر: (وآتيتم إحداهن قنطاراً)، وآية (إنك ميت وإنهم ميتون).
السبب السادس:
عدم معرفته بمدلول بعض ألفاظ الحديث لكونه غريبا عنده: المزابنة، المحاقلة، المخابرة، الملامسة، المنابذة.. ونحوها من الكلمات الغربية التى اختلف العلماء فى تأويلها، ومن هذا القبيل: "لا طلاق ولا عتاق فى إغلاق"، فمنهم من فسر الإغلاق بالإكراه، وهم أهل الحجاز، ومنهم من فسره بالغضب، وهم أهل العراق، ومنهم من فسره بجمع الثلاث فى كلمة واحدة فإنه مأخوذ من غلق الباب أى أغلق عليه باب الطلاق جملة.
يقول ابن القيم: والصواب فى لفظ الإغلاق أنه الذى يغلق صاحبه باب تصوره أو قصده كالجنون والسكر.
ومما يدخل تحت هذا السبب، وهو السبب السادس، الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو على معناه عند التقييد (المجاز) كمسألة القرء، والخيط الأبيض من الخيط الأسود.
السبب السابع:
أن يكون عارفاً بدلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا ينتبه لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ، إما لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد وأنه مماثل لغيره من الأفراد المشمولة باللفظ المذكور، وإما لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإما لاعتقاده اختصاصه بما يجعله خارجاً من اللفظ العام.
السبب الثامن:
اعتقاده أنه لا دلالة فى اللفظ على الحكم المتنازع فيه.
السبب التاسع:
هو أنه لما ظهرت المذاهب الفقهية المعروفة اشتغل كل أتباع مذهب بجمع وتحرير أقوال إمام مذهبهم، ووضع أصول المذهب وتقعيد قواعده، واتسعت دائرة الخلاف إلى أن أصبحت مواطن الاتفاق قليلة جداً، وقد نشأ عن الاختلاف فى القواعد اختلاف كبير فى الفروع.
وما دامت كل قاعدة اختلف فيها ينشأ عن ذلك اختلاف فى الفروع المتفرعة عنها فلك أن تتصور حجم الخلاف، وحتى القواعد الخمس الكبرى والتى عليها مبنى الفقه كله والتى يقال إنها سالمة من الاختلاف فى الجملة فيها خمس وهي:
(1) الشك لا يرفع اليقين.
(2) الضرر ينفي.
(3) المشقة تجلب اليسر.
(4) العادة تَحكَّم حيث لا تجور.
(5) الأمور بمقاصدها.
السبب العاشر:
هو المعاصرة والاحتكاك، وهذا لا تجد له ذكراً عند من يتكلمون فى أسباب ورود الخلاف، والواقع أن ما ينشأ من الخلاف بين المتعاصرين أشد عمقا واتساعاً مما ينشأ بين غيرهم، وقد فطن لهذا الباب أهل الحديث .
السبب الحادى عشر:
هو أن إنكار القياس والالتفات إلى العلل والمقاصد عند أهل الظاهر ومن على شاكلتهم يقابله توسع شديد فى النظر إلى المقاصد والعلل عند آخرين، مما يجعل هوة الخلاف بينهما متسعة بشكل كبير حتى وصل الأمر ببعض العلماء ــ كالنووى ــ إلى عدم اعتبار أهل الظاهر فى الإجماع بحيث يمكن أن يعد الإجماع منعقداً مع وجود المخالفين منهم.
ومما يدخل تحت هذا السبب القول بسد الذرائع المفضية إلى الحرام.
السبب الثانى عشر:
حول النسخ، وقد نشأ عن الخلاف فى مسألة النسخ خلاف فى فروع كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر، ومن أشهر مواطن هذا الخلاف هنا موطنان:
الأول: هل الزيادة على النص نسخ؟ فمذهب الأحناف أنها نسخ، ومن الأمثلة التى يظهر فيها الخلاف فى هذه المسألة مسألة اشتراط أن تكون الرقبة فى الظهار مؤمنة حملاً على الرقبة فى كفارة القتل، فمذهب الأحناف أن الإيمان فى رقبة كفارة الظهار ليس مشروطاً؛ لأن الله قال فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ومقتضى الآية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائداً على النص، والزيادة على النص نسخ.
يقول إمام الحرمين فى البرهان: ووجه ادعائهم كونها نسخاً أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق، والزائد يرفع الإجزاء فى الإطلاق وهو متضمن الآية فاقتضت الزيادة رفع ما تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخاً من هذه الجهة.
الموطن الثاني: هو أن تكون الآية قد نسخت آيات كثيرة كآية السيف فقد زعم جماعة أنها نسخت ما يربو على مائة آية، ويعنون بذلك آيات الدعوة للكفار والحوار معهم والمهادنة والموادعة معهم، ولا شك أن هذا بعيد عن صوب التحقيق.
السبب الثالث عشر:
هو أن فى كل مذهب من المذاهب مدرستان إحداهما تدعو إلى الأخذ بما قام عليه الدليل ولو لم يكن هو مشهور المذهب، والأخرى تدعو إلى الأخذ بما تسميه مشهور المذهب ولو خالف الدليل، ونرى أن هذا الخلاف ناشئ عن الخلفية العلمية لكل واحدة من المدرستين، فهنا من أتباع المذهب من اشتغلوا بالحديث والتفسير مع الاشتغال بفروع الفقه، وهنالك من شغلهم حفظ الفروع والتخريجات عن الاشتغال بالدليل.
ولا شك أن الطائفة التى تشتغل بالدليل من أتباع المذهب هى صاحبة التحقيق والتوفيق عند مواطن النزاع، ومن هذه الطائفة من الشافعية ابن حجر والنووى على سبيل المثال لا الحصر، وإليكم هذا المثال: يقول النووى بعد إيراده لحديث مسلم فى نقض الوضوء بلحم الإبل: احتج أصحابنا ــ يعنى الشافعية ــ بأنباء ضعيفة فى مقابل هذين الحديثين، وكأن الحديثين لم يصحا عند الإمام الشافعي.
ولذا قال إن صح الحديث فى لحوم الإبل قلت به، والصحيح فى ذلك ــ والكلام لا يزال للنووى ــ ما ذهب إليه الإمام أحمد وعامة أصحاب الحديث.. إلى أن قال: الجديد المشهور لا ينقض وهو الصحيح عند الأصحاب والقديم أنه ينقض وهو ضعيف عند الأصحاب، لكنه هو القوى أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذى أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقى إلى ترجيحه واختياره والذب عنه.
ومحل الشاهد عندى من هذا أن البيهقى والنووى من عظماء أئمة الشافعية، وهما من أئمة الحديث فى نفس الوقت.
وقد ظهر الخلاف فى المذهب المالكى بين المدرستين، مدرسة الدليل ومدرسة التقليد، أقول ظهر بينهما ظهوراً أشد من ظهوره بين غيرهم من أهل بقية المذاهب، ولم يخلُ ما جرى من ذلك بين هاتين المدرستين من نتف وطرائف.