لم تكن أغانى "أم كلثوم" مجرد كلمات مصفوفة ومنظومة ضمن بيوت أشعار وقصائد مكتوبة بحرفية نالت إعجاب الجمهور وقتها حينما تغنت بها "كوكب الشرق" على النغمات الموسيقية، فالأمر أبعد من ذلك بكثير، فوراء كل أغنية للست علقت بأذهان الجمهور المصرى والعربى وترسخت فى ذاكرة أهم وأعظم الأغانى العربية قصة إنسانية أو عاطفية زادتها صقلا، وهذا ما أكدته بعض المخطوطات المتواجدة بمتحف "أم كلثوم" بالمنيل، فتكشف القصائد المكتوبة بخط أيدى شعرائها قصصا خلفها وكواليس كانت السبب فى وجودها.
أغنية انت عمرى
كانت أغنية أنت عمرى بمثابة لقاء السحاب بين كوكب الشرق وموسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب"، فكانت الحكاية وراء الأغنية 5 أعوام سبقت ظهورها، فذات يوم دق جرس التليفون بيت عبد الوهاب، وكان المتحدث أحمد شفيق كامل، وبدأ يقرأ كلمات أغنية جديدة لعبد الوهاب ليقول له رأيه، وبالفعل أعجب بها وقرر أن يلحنها، فى الوقت الذى كان "عبد الوهاب" يفكر فى عمل مشترك بينه وبين أم كلثوم وعرض فكرته على أحمد الحفناوى عازف الكمان فى فرقة أم كلثوم ورجاه أن يجس نبضها فى ذلك الموضوع، فعاد إليه بعد أيام يعلن الموافقة المبدئية لأم كلثوم على هذا المشروع.
لكن لم يستكمل المشروع، وتعرض "عبد الوهاب " لأزمة صحية ونقل إلى المستشفى، وأجّل العمل بينهما حتى استرد صحته، واجتمع الثلاثة ليخرجوا هذه الأغنية التاريخية.
ولأن المركب كان له أكثر من ريس تم تعديل الأغنية أكثر من مرة، فاعترضت أم كلثوم على بعض الكلمات.. وكانت الأغنية تبدأ بـ :
شوقونى عينيك لأيامى اللى راحوا
فغيرتها إلى :
رجعونى عينيك لأيامى اللى راحوا
وفى مقطع آخر :
من حنان قلبى اللى بيشابى لحنانك
إلى :
من حنان قلبى اللى طال شوقه لحنانك
أما عبد الوهاب فقد اعترض على الكلمات التالية
"قد إيه من عمرى قبلك راح وعدى
راح كأن العمر قبلك ليلة واحدة
ليلة من دمعى ومن نار الجراح "
فاستبدلها الشاعر بــ :
" قد إيه من عمرى قبلك راح وعدى
يا حبيبى
ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة
ولا داق فى الدنيا غير طعم الجراح "
تعد هذه الأغنية هى آخر ما غنت أم كلثوم، وهى أيضا آخر اجتماع للقاء السحاب الشاعر أحمد شفيق كامل وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وهو الثلاثى الذى بدأ التعاون عام 1964 فى أغنية أنت عمرى، والتقوا مرة أخرى فى أغنية أمل حياتى عام 1965، وألقتها على الجمهور فى حفلتها الأخيرة فى 1973.
وعلى الرغم من أن أم كلثوم تجاوزت سن السبعين وقتها، إلا أن هذا التقدم بالعمر لم يؤثر بأى شكل من الأشكال على أداء جمل غنائية يصعب على الكثير من المغنين أداؤها مثل جملة "متعذبانش.. متشوقناش". وما لا يعرفه الناس أن هذه الاغنية كانت الأقرب إلى قلب "محمد عبد الوهاب"، الذى أعاد غناءها بنفسه على العود.
الصب تفضحه عيون
صاحبت كلمات الشاعر العملاق "أحمد رامى" أم كلثوم منذ بداية مشوارها، فكانت أول أغانيها 'الصب تفضحه عيونه'' فى عام 1924 من كلماته، ومنذ ذلك الحين تعلق قلبه بها، الأمر الذى دفعه لتأليف مجموعة من الأغانى التى تسرد مشاعره تجاهها، و ما بين الحب والشكوى والعتاب والهجر كتب أغانيه، فعندما أراد أن يعبر عن حبه لها كتب ''حيرت قلبى معاك''، لتكون رسالة بين السطور يصرح لها بقلبه الحائر. وتعد هذه الأغنية على وجه الخصوص حلقة من سلسة طويلة من الأغانى الجميلة التى قدمها لأم كلثوم لأكثر من عقدين من الزمن.
هذه ليلتى
فى عام 1968، افتتحت أم كلثوم "مهرجانات بعلبك" بلبنان، وبعد الترحيب الكبير الذى لاقته من قبل الشعب اللبنانى، صرحت لهم بأن أغنيتها القادمة ستكون من كلمات شاعر لبنانى قائلة: "أنا سعيدة بحضورى إلى لبنان، وأحب لبنان والشعب اللبنانى، وسأغنّى قريبا أغنية لشاعر لبنانى من ألحان محمد عبد الوهاب"، وكان الشاعر هو "جورج جرداق".
واستقبلت لبنان هذا التصريح بحفاوة كبيرة، حيث استقبلت الصحافة اللبنانية الحدث بحماسة بالغة، وزينت مجلة "الديار" غلافها بصورة قديمة لكوكب الشرق، وعلقت على الصفحة الأولى بكلمة: "أم كلثوم التى أصبحت فى السبعين من العمر أحيت أمس أول حفلة غنائية فى بعلبك فكانت ولا تزال سيدة الغناء والطرب الأصيل أنه جورج جرداق، وأن الأغنية التى يلحّنها عبد الوهاب من كلماته هى قصيدة (هذه ليلتى)".