احتشد المتظاهرون فى ميدان الإسماعيلية «ميدان التحرير فيما بعد» يوم 14 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1951 يحملون لافتات عليها شعارات وطنية خالصة مثل: «أرواحنا تفديك يا مصر».. «بالدماء تتحرر الأوطان».. «مصر للمصريين».. «ماء النيل حرام على الإنجليز».. «عاش كفاح أهل القنال».. «لبيك وادى النيل».. «المسجونون السياسيون يتمنون لقاء الإنجليز فى القنال».
قالت «الأهرام» فى عددها يوم «15 نوفمبر 1951»: «سجل التاريخ هذا اليوم من أيام مصر فى أبرز صفحة من صفحاته يوم 14 نوفمبر عام 1951، فقد سارت فيه أكبر مظاهرة عرفتها مصر وعرفها التاريخ، مظاهرة أوشكت أن تضم مليونين من الخلق، وهل حدث فى كفاح شعب من الشعوب أن اجتمع قرابة المليونين من الناس وساروا صامتين كاظمين الغيط ليعلنوا جميعا أن هذا الشعب قد نفد صبره، وعاهد الله على الكفاح حتى الموت، كنا جميعا نعرف أن المظاهرة التى سارت أمس، ستكون مظاهرة ضخمة عظيمة رائعة ولكن لم يطف بخيال أحد مهما امتد به الخيال واتسع أن أجساد خلق لا أول لهم ولا آخر ستمتزج جميعا حتى تتحول إلى أمواج متدافقة متلاطمة دونها أمواج البحار».
وأضافت «الأهرام»: «بغير إسراف أن أهل القاهرة يتجاوزون الملايين الثلاثة عدا، وقد كان فى المظاهرة وعلى جانبى الطريق أكثر من مليونين رجل، وأن كل صبى بلغ عمره عشر سنين وكل يافع وكل شاب وكل كهل وكل شيخ خرجوا جميعا من بيوتهم حينما أصبح الصباح ليشتركوا فيها فلم يبق فى البيوت إلا الأطفال والنساء والمرضى، لا بل اشترك فى المظاهرة كثيرات من نساء القاهرة وكثير من المرضى حتى الضريرون اجتمعوا وساروا فى المظاهرات خلف لافتة مكتوب عليها «جمعية النور للنهضة بمكفوفى البصر بالزيتون».
جاءت هذه «المليونية» بعد تطورات بدأت يوم 15 أكتوبر 1951 بإعلان مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة الوفدية، إلغاء معاهدة 1936، وبعدها اشتدت المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإنجليزى فى منطقة القناة، وكانت القوات البريطانية موجودة فيها بقوام 10 آلاف جندى وفقا لشروط معاهدة 1936، وفقا لكمال الدين رفعت فى مذكراته «حرب التحرير الوطنية بين إلغاء معاهدة 1936 وإلغاء اتفاقية 1954»، مضيفا: «بعد إلغاء المعاهدة تضاعف استفزازات البريطانيين ضد الأهالى فى الإسماعيلية وبورسعيد، وكان إطلاق الرصاص من قوات الاحتلال على الأهالى صار أمرا مألوفا، وفى المقابل كانت اغتيالات الجنود الإنجليز مسألة يومية يقوم بها الفدائيون فى القنال».
كان «رفعت» من قيادات تنظيم الضباط الأحرار الذى قاد ثورة 23 يوليو 1952، وكلفه التنظيم بقيادة أعماله الفدائية فى منطقة القناة قبل الثورة، وكان أول وزير للعمل فى تاريخ مصر من عام 1961 ثم وزيرا للتعليم العالى والبحث العلمى عام 1964.. ويكشف فى مذكراته: «شهدت بنفسى عدم حماس الشعب فى مدن القناة لتلك المظاهرة، فقد كان يراها استمرارا للكفاح السلمى فى وقت أعلن فيه الشعب الحرب ضد قوات الاحتلال، وقادة الإخوان يدعون إلى الهدوء والسكينة، فلا حرب مع الإنجليز ولا مظاهرات، وكان الموقف الصحيح والوحيد هو موقف الضباط الأحرار، ويتلخص فى كلمة واحدة هى «حرب عصابات فى القنال والمدن الكبرى تحمى ظهور الفدائيين فى القنال، وتنفيذا لذلك قرر الضباط الأحرار شن هجومين كبيرين على معسكرات الإنجليز فى القنال قبل مظاهرة 14 نوفمبر وفى نفس الوقت الاشتراك فى المظاهرة».
وتشكلت لجنة وطنية لتنظيم المظاهرة الكبرى، وتقرر أن تكون صامتة، وتخرج فى القاهرة والإسكندرية ومحافظات مصر، وحسب مجلة «أيام مصرية» فى عددها «40 -2011 »، فإن ردود الأفعال البسيطة والرائعة توالت من المصريين، فعمال المخابز فى القاهرة قرروا الاشتراك، ورابطة عمال وملاحظى بلوكات السكة الحديد قرروا وقف حركة سير القطارات لمدة ساعة حدادا على أرواح الشهداء، وقرر تجار الإسكندرية إغلاق متاجرهم فى طريق المظاهرة، وأوقفت المحاكم جلساتها لمدة نصف ساعة، وارتدى أعضاء البرلمان وأساتذة الجامعات المشاركين فيها الأوسمة والأوشحة، وكان مصطفى النحاس فى مقدمة المشاركين، وبدأت المظاهرة فى الساعة الحادية عشرة صباحا متجهة من ميدان الإسماعيلية «التحرير» إلى شارع سليمان باشا «طلعت حرب»، ثم شارع فؤاد «26 يوليو»، ثم إلى ميدان عابدين حيث القصر الملكى، وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، وبعدها انصرف جموع المتظاهرين فى صمت من الشوارع المتفرعة من ميدان عابدين.