سار خمسة أشخاص فقط خلف النعش الذى يحمل جثمان سلطانة الطرب منيرة المهدية، التى توفيت يوم 11 مارس، مثل هذا اليوم عام 1965» هم، حفيدها من ابنتها الوحيدة نعمات، وثلاثة من أصدقائه، وأمين صندوق معاشات الفنانين، حسبما تذكر الكاتبة الصحفية سناء البيسى فى مقالها «منيرة المهدية الغندورة - الأهرام، 26 إبريل 2008».
كان المشهد ختاما لحياة فنانة غربت عنها شمس النجومية منذ سنوات طويلة، لكنه لم يطوى سيرة مطربة يصفها الناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى فى كتابه «تراث الغناء العربى»: «كانت أقوى مطربات عصرها صوتا، وإن كانت لا تتفوق عليهن فى المقدرة فى الأداء، ولكن تمتاز بنبرات صوتها الفضى، وبحتها العميقة التى تشبه بحة الأرغول، ويذكر الذين حضروا حفلاتها أنها كانت تغنى الأدوار المشهورة ولا تكتفى بالطقاطيق عندما تغنى للرجال، فإذا غنت داخل «الحريم» اكتفت بالطقاطيق».
يعتبرها نجيب محفوظ: «من أجمل الأصوات النسائية التى عرفتها مصر».. يضيف فى «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» لرجاء النقاش: «صوتها من نفس طبقة صوت أم كلثوم أو أقل درجة»..يتذكر أنه شاهدها مرتين، الأولى فى مسرح رمسيس فى أحد العروض المسرحية مع يوسف بك فهمى، والثانية فى إحدى حفلاتها العامة، مع صديقه «إبراهيم فهمى دعبس»، واكتشف مع صديقه أنهما الشابان الوحيدان بين جمهور الحفلة، والباقى كانوا من كبار السن، فاندهش إبراهيم وسأل «نجيب»: «ما الذى جعلك تأتى بنا وسط هؤلاء العجائز؟.. يضيف «أديب نوبل»: «عندما غنت ظهر عليها التأثر بتقدم العمر، فكانت تغنى قليلا وتسعل قليلا، إلى أن أتمت الحفل، وبعدها اعتزلت الغناء، فكان لى شرف حضور آخر حفلة من حفلات منيرة المهدية».
ولدت باسم «زكية حسن منصور» فى الزقازيق عام 1885 أى بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر بثلاث سنوات «1882».. كان الغناء فى مصر وقتها، حسب فتحى غانم فى كتابه «الفن فى حياتنا»: «يثير الناس ويطربهم بشىء اسمه «الهنك والرنك»، وهى الميوعة والطراوة فى الغناء، ابتكرها محمد عثمان منذ أيام الخديوى إسماعيل وحفلاته الباذخة، إذ يقضى المغنى عشر ساعات متتالية وهو يتلاعب بصوته مرددا جملة أو شطرا من قصيدة»، انتقلت إلى القاهرة بعد رحيل والديها لتعيش مع أختها الكبرى المتزوجة من أحد كبار الملاك الزراعيين، وتبدأ رحلة احترافها الفنى، حسب كتاب «منيرة المهدية والغناء فى مصر قبلها وفى زمانها» للدكتورة رتيبة الحفنى.. تؤكد «الحفنى» أن الملحن كامل الخلعى أقنعها باحتراف الغناء، ووجد لها عملا فى مقهى صغير لصديقه محمد فرج والذى أصبح أشهر مقهى فى الحى بعد أن أقبل عليه نجوم الفن والغناء وقتها ومنهم إبراهيم القبانى وسليمان القرداحى وسلامة حجازى، والمقهى الصغير لم يعد يتسع لها فاستأجرت صالة كبيرة وأطلقت عليها اسم «نزهة النفوس» ومنه كتبت سطورا جديدة لتاريخها.
تذكر «البيسى»: «تنتقل الست منيرة كما كانت تلقب فى مرحلتها الفنية الأولى إلى لقب مطربة الأزبكية الأولى، ومن بعدها كانت تنتقل من الطقاطيق إلى تمثيل روايات الشيخ سلامة حجازى وغناء قصائده بعد إصابته بالشلل عام 1909، وهو الذى قال لها بعد سماعه لها لأول مرة: «أوصيك خيرا بحنجرتك وبتلك البحة الخالدة، صوتك اسمه الصوت الأبيض، وتسأله منيرة بسذاجة: هو فيه صوت أبيض يا شيخ سلامة؟، فيرد عليها: صوتك كل 100 سنة لما بيجى فى الدنيا صوت زيه، حافظى عليه، حافظى كويس».
ارتبطت «منيرة» بثورة 1919، فغنت لزعيمها سعد زغلول: «يا بلح زغلول يا حليوة».. تذكر «البيسى» أن حسين رشدى باشا رئيس الوزراء، كان من رواد مسرحها ومن أشد المعجبين بها، وتروى هى أنه طلب منها يوما التوسط لدى السلطات الإنجليزية للإفراج عن شاب وطنى يدعى محمود جبر السجين فى ثكنات قصر النيل، وذهبت إلى دار الحماية وطلبت مقابلة المعتمد البريطانى الذى سألها عن دافعها لإطلاق سراح الرجل الخطير، مؤكدا أنه سيلبى طلبها فقط إذا ما كان الأمر يتعلق بالحب والرغبة فى الزواج، فاضطرت إلى الادعاء بأنها تحبه، فاستدعى المعتمد البريطانى المأذون وتم الزواج أمامه بشهادة اثنين من السفارة.
هناك الكثير مما يقال عن سبب تراجعها، وحسب كتاب «صوت مصر- أم كلثوم»، تأليف «فرجينيا دا نيلسون» ترجمة، عادل هلال عنانى، فإنها وعلى النقيض من أم كلثوم وفتحية أحمد لم تسع إلى تعلم أغان أو مهارات أو أساليب جديدة، إلا فى أضيق الحدود، وبعد عام 1928 لم تعد المرأة التى لم يكن من الممكن النيل من شعبيتها فى بداية العشرينيات «القرن الماضى»، وفى عام 1961 منحها جمال عبدالناصر وسام العلوم والفنون.