كم كبير من المعالم الآثرية، وكم أكبر من الإهمال، يزخر بها شارع «سوق السلاح» الواقع بمنطقة الدرب الأحمر، والذي يعد أحد أقدم وأعرق شوارع قاهرة المعز.. «معادلة بسيطة» تفسر تراجع نسبة السياحة الوافدة إلى مصر مقارنة بامتلاكها أكثر من ثلث آثار العالم، وتثير الاستياء من عدم الاهتمام بتلك المعالم التاريخية لاستقطاب السياح، خاصة في وقت تعاني فيه السياحة المصرية بعد حادث سقوط الطائرة الروسية أواخر أكتوبر الماضي، وهو مابدا جليًا من ضعف الاقبال بالمدن السياحية مثل «شرم الشيخ» في احتفالات الكريسماس رغم حملات الترويج التي انطلقت عقب الحادث الأسوء للسياحة المصرية.
«أكوام القمامة» التي تحيط بالمعالم الآثرية وتفوح رائحتها في كل مكان، كانت أكثر مايشوه «سوق السلاح»، خلال جولة قام بها موقع «انفراد» داخل الشارع العريق، وباتت «تلال القمامة» كما لو أنها جزء من معالم الشارع التاريخي مثل الأضرحة والمساجد التاريخية والأسبلة، ورغم إقالة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم محلب لرئيس حي وسط القاهرة، عقب الجولة المفاجئة التي قام بها في يونيو الماضي ومشاهدته للكم الهائل من أكوام القمامة المتراصة بالشارع، لكن بقى الوضع كما هو وإزدادت القمامة.. بجانب السيارات المركونة بالساعات دون معرفة صاحبها والتي قد تحتوي على قنابل أو مواد متفجرة كما استخدم في حادث «تفجير القنصلية الإيطالية»، وضيق الشارع الذي يحدث شلل مروري تام في حالة مرور سيارة كبيرة.
«مشروع تطوير القاهرة التراثية».. لافتة كبيرة علقت على عدد من العقارات داخل شارع «سوق السلاح»، فالشارع التاريخي يدخل ضمن المشروع الذي أطلقته محافظة القاهرة يونيو الماضي، لكن يبدو أن هذا التطوير اقتصر على ترميم العقارات فقط ولم يمتد إلى المعالم التراثية النادرة التي يعج بها الشارع، والتي أصبحت مطموسة المعالم وأجزاء منها مهشمة كـ «بوابة منجك السلحدار» التي تستقبل زوار الشارع التاريخي ببوابة ضخمة مهشمة، لتفقد بريقها وتفقد زوارها كذلك.
«الحاج محمود».. أكوام القمامة و«مقام سعود الرفاعي» يجواران «دكانه»
أمام دكانه الصغير بمنتصف شارع «سوق السلاح»، يجلس «الحاج محمود» يتصفح أحد الجرائد، على بعد خطوات قليلة منه تتراص أكوام هائلة من القمامة تنبعث منها روائح كريهة، الرجل الستيني اعتاد على مشاهدتها أمامه كما اعتاد على تواجد «مقام سعود الرفاعي» الذي يجوار دكانه: «الزبالة موجودة هناعلى طول، مرة نقلوا مكانها لأرض فاضية قدام شوية، أصحابها زعقوا، فرجعوها هنا تاني، وعربيات النظافة أوقات بسيطة بتيجي تشيلها».
«الإهمال هو السبب في اللي وصل له حال الشارع، محدش مهتم خالص رغم إن الشارع ده مليان أماكن عظيمة ممكن السياح يزوروها، لكن هيجوا يشوفوا إيه زبالة !» يقولها «الحاج محمود» بمرارة كبيرة، مؤكداً أن المرة الوحيدة التي اهتمت فيها الدولة بالشارع العريق كانت وقت زيارة رئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب منذ عدة أشهر: «الزبالة اتشالت بس لما محلب جالنا من كام شهر، وقتها أقال رئيس حي الدرب الأحمر، ورصف الشارع وظبط الرصيف.. لكن بعد مامشى الزبالة رجعت تاني، والحكومة الجديدة أدي وش الضيف، محدش جالنا منها».
يعمل «الحاج محمود» في تصليح الأجهزة الكهربائية، فهو من أقدم العاملين في تلك «الصنعة» بالشارع التاريخي، لكنه لايعتمد عليها كمصدر دخل بشكل أساسي، فيقول أنه يتقاضى معاش كبير من القوات المسلحة بعد تقاعده منها منذ 29 عامًا لإصابته بإعاقة في ظهره: «كل الكهربائية في الشارع هنا ولادي أنا اللي معلمهم الصنعة، أنا مبشتغلش كتير لأني تعبان، بس فاتح المحل بتاعي عشان يسليني ومعدش في البيت، وإيجاره مش كتير 28 جنيه، والحمد لله باخد معاش كويس أكتر من 5 آلاف جنيه من الجيش، أنا كنت مساعد فني في القوات المسلحة قبل ماطلع معاش من 29 سنة لما حصلي إعاقة في ظهري».
عربة النظافة تغادر دون رفع القمامة بسبب سيارة مركونة
قبل غروب الشمس بقليل، حضرت عربة النظافة، لحمل أكوام القمامة التي تحيط سور مدرسة «الرفاعي الإبتدائية المشتركة» والمتراصة أمام «مقام سعود الرفاعي» وبجوار دكان «الحاج محمود» بالشارع العريق.
محاولات جاهدة من سائق عربة النظافة الضخمة لدخول الشارع الضيق الذي يتسع بالكاد لدخول عربة متوسطة الحجم، لايكاد ينجح في الوصول إلى هدفه حتى يصطدم بسيارة أجرة «تاكسي» تقف بجوار المدرسة وتلال القمامة منذ أول اليوم وغير معلوم صاحبها، بحسب الأهالي.
وبعد محاولات عدة استمرت لدقائق دون جدوى، وكانت تلك الدقائق كفيلة بإحداث شلل تام داخل الشارع الضيق بعد توقف السيارات بطول الشارع وتعثر المارة عن العبور، اتخذ العمال قرارهم بالتحرك بعربة النظافة التي حملت على جانبيها بالخط العريض شعار «بيئة نظيفة صالحة للعيش»، دون رفع تلال القمامة ودون أن يتركوا الشارع نظيف أو صالح للعيش.
صاحب محل بقالة: «الزبالة بتطلع أمراض على العيال في الفصل.. والعربية المركونة لو فيها قنبلة هتفجر المدرسة»
على بعد خطوات قليلة من أكوام القمامة التي احتفظت بمكانها، جلس «جمال» داخل محل البقالة الخاص به والضيق شأن معظم محال الشارع، غير عابيء بحالة الهرج والمرج التي تسبب فيها تكدس السيارات والمارة، فالمشهد بات طقس يومي اعتاد عليه الرجل الأربعيني بمجرد مرور سيارة كبيرة بالشارع التاريخي الضيق.
يشير «جمال» إلى أكوام القمامة قائلاً: «برضوا ماعرفوش يشيلوها، لازم يشوفولهم حل، الزبالة دي مكانها جمب سور المدرسة خطر جداً، لأنها بطلع الأمراض على الولاد اللي بيدرسوا في الفصول».
القمامة وضيق مساحة الشارع ليست وحدها مايزعج الرجل الأربعيني، فيضيف إليهما مشكلة السيارات المركونة لساعات وغير معلوم صاحبها: «الشارع مليان عربيات بتعد مركونة ساعات محدش عارف بتاعت مين، الله أعلم ممكن يكون جواها قنبلة وتنفجر، التاكسي اللي قدام المدرسة ده وقفته كده غلط، غير إن العربية معرفتش تشيل الزبالة بسببه، ده لو انفجر والطلبة في المدرسة هتبقى مصيبة، مش القنصلية الإيطالية اتفجرت بعربية برضو.. صحيح إحنا منطقة شعبية ومحصلش تفجيرات عندنا قبل كده بس الحرص واجب».
3 صديقات من «سوق السلاح» يحترفن «السيرك والإيقاع»: «بنزعل لما نسافر برة مصر ونشوف الشوارع نضيفة وعندنا زبالة»
«نورا، ملك، ندى».. ثلاث صديقات من سكان شارع «سوق السلاح»، يتزاملن في المدرسة بالصف الأول الإعدادي، وكذلك في تعلم «السيرك والإيقاع» داخل «مدرسة الفنون» بالدرب الأحمر، تتفاخر الصديقات الثلاثة بالمعالم الأثرية الموجودة بشارعهم العريق، ويبدين انزعاجهن الشديد من القمامة التي تشوه ذلك التراث، الاتي يعرفن قيمته التاريخية ويتحدثن عنها بزهو كبير.
«بزعل أوي لما بسافر برة مصر وبشوف الشوارع إزاي نضيفة، وبلاقي الزبالة هنا مالية شارع سوق السلاح وبتشوه شكله».. تقولها «نورا»، وتشير إلى سفرها هي وصديقتيها إلى دول خارج مصر منها الكويت وبيروت ليشاركن مع «مدرسة الفنون» الاتي يدرسن بها في مسابقات «السيرك والإيقاع»، وتؤكد على تحقيقها مركز متقدمة في تلك المسابقات.
تحفظ الصديقات الثلاثة معالم شارعهم العريق عن ظهر قلب، ويتحدثن عنه بزهو كبير، فتقول «ملك»: «شارعنا ده فيه آثار كثيرة، الناس اللي مش من هنا ممكن متعرفش عنها حاجة، اللي ورانا ده اسمه (مسجد عارف باشا) وإحنا بنسميه (مسجد الزاوية(، وقدام شوية فيه سبيل (راقية دودو( جمب مقام (سعود الرفاعي)، وعندنا (حمام بشتك)».
تلتقط «ندى» أطراف الحديث من صديقتها، وتقول: «أنا بحب كل حاجة في شارعنا، بحب مدرسة الفنون، وبحب الأثار اللي عندنا، وبحب مدرستي، بس الحاجة الوحيدة اللي مبحبهاش هي الزبالة، ونفسي إنهم يشيلوها ويخلولنا الشارع نظيف».
تمر بعض النساء بالقرب من الصديقات الثلاثة، بينما يتابع عمال النظافة رفع القمامة المتراصة في نهاية الشارع والمحيط بسور أحد العقارات الذي انتهى لتوه من الترميم ضمن «مشروع تطوير القاهرة التراثية»، ترفع إحدى السيدات صوتها قائلة: «حاسبوا الزبالة تقع عليكم يانورا، ابعدوا عنها»، تضحك «نورا» ببراءة وتقول: «هنبعد عنها نروح فين، مالزبالة في كل حتة في الشارع».