مدينة المساجد ..الفلوجة هى مدينة عراقية تقع ضمن محافظة الأنبار على بعد 60 كيلو متر شمال غرب العاصمة بغداد، ومعنى الفلوجة فى اللغة هى الأرض الصالحة للزراعة، حيث تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض، ويبلغ عدد سكان المدينة 275128 نسمة موزعين على عدة أحياء.
برز اسمها إلى الإعلام أول مرة، بعد تصديها لقافلة من مرتزقة شركة (بلاك ووتر) المتعاقدة مع الجيش الأمريكى، والتى دخلت المدينة فى وضح النهار، فما كان من أهلها إلا التصدى لهم وقتل أربعة حراس منهم، الأمر الذى أدى إلى ردة فعل انتقامية من قبل قوات الاحتلال الأمريكية والتى حاولت اقتحام المدينة ولكن المقاومة العراقية انذاك، تصدت لهم، واستصرخ أهلها بقية أبناء العراق للدفاع عنها، فهب لنجدة المدينة عراقيون من صلاح الدين وبغداد والموصل والنجف والبصرة واستشهد عدد كبير من العراقيين فى هذه المعركة، من بينهم عدد من الشيعة التابعين لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
ورغم استعمال قوات الاحتلال قنابل الفوسفور المحرمة دولياً وتدمير جزء كبير من الفلوجة، إلا أنها لم تستطع اقتحام المدينة وبقيت محاصرة من عام 2004 إلى أواخر 2007.
القاعدة على الخط
بسبب حالة الاضطراب التى عاناها العراق بعد الاحتلال الأمريكى هاجر الكثير من اتباع تنظيم القاعدة المتشدد إلى المدينة، وعلى رأسهم أبو مصعب الزرقاوى الأردنى الجنسية، وكان هنالك سجال بين المقاومة الوطنية المكونة من أبناء المدينة والقادمين من خارجها، وبين أبو مصعب الزرقاوى والمتشددين معه، حيث كان الأخير يشدد على مقاتلة الشيعة فى بياناته وأفعاله، بينما كانت المقاومة ترفض بشدة استهداف أبناء الشعب العراقى من الشيعة، الأمر الذى أدى إلى خلافات كبيرة أدت إلى سيطرة تنظيم القاعدة على زمام الأمور فى المدينة ومحافظة الانبار عموماً، وقد استهدفت القاعدة عدداً كبير من رجال المقاومة المعارضين للتنظيم الذى بات يطلق على اسمه تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين، وفى إحدى العمليات للتنظيم استهدف الاخير دورية صغيرة لجيش الاحتلال كانت تتجول فى أطراف المدينة داخل سوق مزدحم بالناس وفجروا صهريجاً يحمل أطناناً من المواد المتفجرة بينها غاز الـ(سى فور) أدى إلى مقتل أربع جنود واختناق أكثر من 300 مواطن من أهل الفلوجة، هذه الأفعال وغيرها أدت إلى انتفاض الأهالى عليهم، وتم دحر التنظيم فى المدينة، ومحافظة الأنبار كاملة.
الانتفاضة السلمية
بقيت المدينة، ورغم مساهمة أهلها فى تحريرها من قبضة القاعدة تعانى من ظلم الحكومة التى كان يرأسها نورى المالكى، وتعرض عدد من أبناءها إلى الاعتقال لسنوات طويلة، وبعد خروج القوات الأمريكية فى العراق، كان للمالكى دور فى تأزيم الوضع السياسى، واختلاق المشكلات مع زعماء سياسيين سنة، فانطلقت الشرارة بعد اعتقال عدد من أفراد حماية نائب رئيس الوزراء السابق رافع العيساوى من أبناء المدينة، خرجت المدينة فى مظاهرة سلمية ما لبثت أن تحولت إلى اعتصام مفتوح فى كافة مدن الأنبار لتنتشر الاعتصامات فى صلاح الدين والموصل.
ونظراً لضيق أفق نورى المالكى زعيم حزب الدعوة واستئثاره فى السلطة عمد إلى تجاهل مطالب المتظاهرين باستثناء إطلاق سراح 3000 شخص من أصل أكثر من عشرة آلاف معتقل دون أوامر قضائية.
داعش على الخط
بعد تأسيس تنظيم داعش حاول الأخير استغلال الأزمة والدخول إلى المدينة إلا أن أهل المدينة الذين ذاقوا الأمرين من التنظيمات المتطرفة التى سبقته، رفضوا دخوله على الخط أو حتى السماح له بالتغلغل، ولكن الامر لم يدم طويلاً فمع عبور التنظيم الأراضى السورية وتحديداً وادى حوران، توجهت قوات من الجيش العراقى إلى الوادى الواقع فى عمق محافظة الأنبار، وقد تم توجيه ضربات استباقية للتنظيم فلم ينصر أهل المدينة التنظيم واعتبروا وجوده على الأراضى العراقية غير مرغوب به إلا ان رئيس الوزراء السابق نوري المالكى أمر قواته بضرب الاعتصام فى محافظة الأنبار وإحراق خيم المعتصمين، ما أدى لقتل عدد منهم، فضلاً عن ذلك قامت قوات خاصة باقتحام منزل النائب فى البرلمان عن محافظة الانبار أحمد العلوانى أحد المحرضين على التظاهر، ما أدى إلى مقتل شقيقه وعدد من أفراد حمايته واعتقاله، وكل هذه الأحداث أدت إلى نشوب نزاع مسلح بين العشائر من أبناء المحافظة وبين الجيش والشرطة، ما لبث أن تحول إلى انتفاضة انسحبت على إثرها القوات الأمنية تاركة المدينة عرضة لدخول داعش، الذى وجد فى خطأ المالكى القاتل فرصة للانقضاض على المدينة وهذا ما حدث.
فبعد أيام من سيطرة أبناء العشائر على المحافظة دخل تنظيم القاعدة إلى المدينة، وسيطر عليها بشكل كامل وطارد عدد من قيادات الاعتصام التى حاربته سابقاً، عندما كان اسمه تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين، وهكذا بقيت المدينة وابناؤها رهينة بيد المتطرفين الذين منعوا على أى شخص من خارج التنظيم حمل السلاح والخلاف معه تكون عقوبته الموت.
تحرير الفلوجة انقاذ المدينة ام انقاذ السياسة
لم يكن النظام الحاكم فى بغداد ليهتم بأمر الفلوجة لولا الاحتجاجات الكبيرة التى خرجت فى العراق ضد فساد الطبقة الحاكمة التى ضيعت أكثر من 800 مليار دولار هى ميزانيات العراق منذ 2003 إلى 2014 ومع إصرار السياسيين على عدم الاذعان لصوت الشعب من خلال تغيير الحكومة ومحاسبة المفسدين، قامت جموع المتظاهرين باقتحام المنطقة الخضراء، "الحصن الحصين" للحكومة والسفارات الاجنبية، وتم اقتحام مجلس النواب لمدة يوم كامل، وفى الأسبوع التالى استطاعت الجموع من الوصول إلى مقر الحكومة العراقية واقتحامه ما تسبب بصدامات مع قوات الامن، ادت الى استشهاد عدد من المتظاهرين وجرح العشرات.
ولولا الحيلة الجهنمية لحزب الدعوة وقيادته لكانت المنطقة الخضراء فى خبر كان، حيث بدأ الشارع العراقى يغلى بعد تسرب فيديوهات للقوات الأمنية وهى تصفى المتظاهرين، وكان الموعد فى نهاية الأسبوع اللاحق لاقتحام الخضراء من جديد مع عواقب لا تحمد ووعيد من قبل المتظاهرين ضد السياسيين، لكن (حيدر العبادى) رئيس الوزراء العراقى استبق الأحداث وأعلن فى منتصف الأسبوع عن بدء عملية (تحرير الفلوجة) وحشد الجيش والحشد الشعبى على تخوم المدينة بدعوى تخليصها من قبضة داعش، وهكذا نجحت الخطة بانقاذ العملية السياسية من الانهيار، وباتت وسائل الاعلام التابعة للطبقة الحاكمة تنعت الداعين الى التظاهر بـ(المندسين).
الانتقام الممنهج
لاشك فى أن ميليشات حزب الدعوة والأحزاب التى سببت فى سقوط أكثر من ثلث مساحة العراق بيد داعش استفادت من هزيمة الجيش العراقى، لتشكل الحشد الشعبى الذى زج بأبناء الجنوب فى أتون حرب طاحنة تبعد مئات الكيلومترات عن مدنهم ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يربح السياسيون السنة والشيعة جولة جديدة، فمن جهة تمكن السياسيون الشيعة من حشد المواطنين من أبناء الجنوب والوسط بدعوى الجهاد ضد داعش وتحرير الأراضى العراقية، ولكن فى المقابل لم يدافع السياسيون السنة عن مدنهم وعولوا فى الأمر على الجيش العراقى فى تحرير المدينة.
لقد وجد نورى المالكى فى فتوى على السيستانى فى الجهاد ضد داعش فرصة لشكيل الحشد الشعبى، والفرصة الأكبر فى العودة إلى حكم العراق من الباب الخلفى، بعد أن تسبب فى هزيمة الجيش العراقى وتسبب بمقتل الآلاف من المتطوعين الذين انخرطوا فى تشكيلاتها.
ومن جهته، شكل زعيم التيار الصدرى مقتدى الصدر سرايا أطلق عليها (سرايا السلام)، وهى التى كانت تقاوم الاحتلال الأمريكى فى بغداد ووسط وجنوب العراق، لكن الصدر لم يضم سراياه ضمن تشكيلات الحشد الشعبى، وإنما جعلها مستقلة القرار والارتباط، عكس بعض التشكيلات التى تتبع إيران أو أحزاب سياسية.
أن التشكيل المعقد للحشد الشعبى والنوايا السيئة المبيتة مسبقاً عليه من قبل سياسيين سنة هجروا مدنهم المحتلة من داعش إلى إقليم كردستان أو دول الجوار، إضافة إلى ماكينة الجزيرة الإعلامية التى شيطنت جميع عناصر الحشد الشعبى، والشعارات والكلمات الثأرية التى اطلقتها بعض الميليشيات المنضوية تحت لواء الحشد الشعبى، الأثر الأكبر فى الترويج إلى عملية انتقامية ستحل بالمدينة وأهلها، لكن كل ذلك كان فى حدود المعقول لولا التواجد المستمر لقائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الجنرال قاسم سليمانى والتقاطه عشرات الصور غير المبررة، والتى انتشرت كانتشار النار بالهشيم فى الإعلام، وقد لا تكون صدفة عابرة أو نزوة شخصية، بقدر كونها رسالة واضحة إلى دول الخليج، والتى تتهمها إيران بدعم الإرهاب فى العراق، إن إيران لها اليد الطولى هناك.
أما الرسالة الإيرانية الأهم فهى لأمريكا وحلفها الذين شكلوا حلفاً (جويا) قام بعدد من الطلعات الخجولة فوق سماء العراق بحجة محاربة داعش، وعبثا حاولت الحكومة وأجهزتها الإعلامية التغطية على وجود سليمانى أو على المشاهد البشعة التى قام بها أفراد من الجيش العراقى أو الحشد الشعبى ضد بعض السكان الهاربين واحتجازهم فى أماكن لاتصلح للحيوانات، فضلاً عن عمليات التعذيب الممنهج لعدد منهم وقتل البعض الأخر.
البقاء والاستمكان
إن تحرير الفلوجة من قبضة داعش دون مقاومة ملموسة يبين مدى هشاشة هذا التنظيم، الذى اعتمد على حشد الأحقاد لدى الناس من خلال إعلامه، واعتمد على أهالى المدينة كدروع بشرية، ومن جهة أخرى يبين للعالم أجمع أنه لا حاضنة لداعش فى المدينة، ولا إيمان بفكره الضال.
انسحاب أو انهزام داعش من الفلوجة جاء ممنهجاً تحت ضربات للجيش العراقى، إلا أن هذا الانهزام أو الانسحاب لن يكون طويلاً دون معرفة جوانب الخلل التى يستخدمها التنظيم فى حركته، وعلى رأسها سياسة الحكومة التى يقودها حزب الدعوة ضد أهالى المدينة، وعدم إعطاء أهل الفلوجة صلاحية المحافظة والدفاع عن مدينتهم من خلال تشكيل لواء للجيش العراقى من أهل المدينة، وعدم إدخال فصائل الحشد الشعبى فيها كى لا تكون هنالك حساسيات بينهم وبين المواطنين قد تستخدمها داعش للعودة وتجنيد السكان.
وأخيراً يجب إعادة إعمار المدينة المهدمة فوراً وإرجاع النازحين إليها وتعويض المتضررين لما له من أثر كبير فى بسط الأمن والسلام فى مدينة المآذن.