احتشد الآلاف فى الساعة السادسة والنصف، 20 مايو، مثل هذا اليوم، 1928، لمشاهدة لحظة رفع الستار عن تمثال «نهضة مصر» الذى أبدعه محمود مختار، أمام محطة السكك الحديدية بالقاهرة، قبل أن ينتقل إلى مكانه الحالى أمام جامعة القاهرة، حسبما يذكر بدرالدين أبوغازى، فى كتابه «المثال مختار»، مضيفا: «تمت إزاحة الستار فى احتفال رسمى، ألقى فيه رئيس الوزراء كلمة الحكومة، كما ألقى الشاعر على الجارم قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى»، يكشف: «فى لحظات الاحتفال الرسمى الباهر، انعزل مختار بعيدا مع مجموعة من الأصدقاء، وعندما طلب الملك فؤاد استدعاءه لم يجده رجال التشريفات وبدأ الحرج يرتسم على الجو، وأخيرا وجدوه بعد بحث فى الجانب الآخر من الميدان يمزح مع بعض الأصدقاء».
بتقدير «أبوغازى»: «كان هو أول تمثال أقيم فى العصر الحديث..هو بدء عودة الحياة إلى الأزميل الذى هوى من يد آخر فنان فرعونى، وجاء تعبيرا عن فكرة قومية، ومعنى هز مشاعر الجموع، وبه بدأ الإحساس بالفن كضرورة قومية، وكانت لظهور التمثال وإقامته من أحجار الجرانيت دلالة رمزية ردت إلى الناس الثقة، وجعلته نشيدا من أناشيد الأمل فى عصر النهضة»، يكشف «مختار» طريقه إلى إنجازه العظيم، قائلا لجريدة «البلاغ 18 يناير 1927»: «كان ذلك سنة 1920، وكنت بباريس حيث اشتركت فى المعرض العام، وليس الاشتراك فيه أمرا سهلا، لأن اللجنة صارمة جدا فى أحكامها، ويكفى أن أقول إن الذين يتقدمون إليه لا يقل عددهم عن خمسة أو ستة آلاف، واللجنة تختار منهم ستين أو سبعين حفارا تمنحهم الجوائز، ولفت التمثال لما عرضته هناك أنظار اللجنة، وكان لى شرف أن أنتخب من بين الفائزين، ومنذ ذلك الحين تكونت فكرة إقامة التمثال فى مصر تخليدا للنهضة المباركة»، يضيف: «التمثال الكبير ليس إلا صورة طبق الأصل للتمثال الصغير الذى عرضته بباريس، ونلت الجائزة عليه، وتناول رجال حكومتنا هذه الفكرة وعملوا على تحقيقها».
يذكر «أبوغازى»، أن الوفد المصرى برئاسة سعد زغلول كان فى باريس للدعوة للقضية المصرية، فتعرف أعضاؤه على «مختار»، وشهدوا تمثاله قبل أن يعرضه، ولمسوا تقدير الأوساط الفنية الفرنسية له فأدركوا أن هذا الشاب المجهول من دواعى فخرهم، وبجهوده الصامتة يؤدى للقضية المصرية أجل الخدمات، وواجبهم أن يمهدوا له الطريق ليأخذ مكانه اللائق فى بلاده».
يؤكد «أبوغازى» أن جريدة «الأخبار» لصاحبها «أمين الرافعى»، نشرت مقالة من أربعة أجزاء، كتبها مجد الدين حفنى ناصف، وكان يدرس فى باريس، ومن خلالها جاء التعريف بالتمثال وبجهود «مختار» فى باريس، وعقب هذه المقالة كتب الدكتور حافظ عفيفى، أحد أعضاء الوفد فى باريس يقترح على «الرافعى» أن تدعو «الأخبار» لاكتتاب عام لإقامة التمثال فى أحد ميادين العاصمة، ورحب «الرافعى»، ونشر فى اليوم التالى نداء الاكتتاب تحت عنوان «نهضة مصر - دعوة إلى الأمة المصرية»، وتشكلت لجنة لإقامة التمثال برئاسة حسين رشدى
تجاوب المصريون، وبلغت قيمة الاكتتاب ستة آلاف وخمسمائة جنيه، وطلبت اللجنة من الحكومة الترخيص بإقامة التمثال بميدان المحطة، فوافقت فى 25 يونيو 1921، ورغم ذلك توالت العقبات، أولها، نفاذ اعتماد الحكومة المخصص فى 1922 لقطع أحجار الجرانيت من أسوان ونقلها وقدره 3 آلاف جنيه، واستطاع ويصا واصف، بعد عرض الأمر على البرلمان أن يعتمد 12 ألف جنيه فى يوليو 1924، غير أن مؤامرات التعطيل استمرت بتدخل مسؤولين من وزارة الأشغال، واستطاعوا إيقاف العمل بحجة النظر فى قيمته الفنية، واقترح المهندس صالح عنان، وكيل وزارة الأشغال حينئذ، «تشكيل لجنة من ذوى الذوق للنظر فى صلاحية التمثال»، فرد «مختار»: «حبذا لو ألفت لجان لفحص كل شىء حتى كفايات بعض الموظفين للمناصب العالية الفنية التى يشغلونها».
تغير الوضع بتولى عدلى يكن رئاسة حكومة الائتلاف، ورئاسة سعد زغلول لمجلس النواب، وحسين رشدى رئيسا للشيوخ، فكتب مختار إلى «يكن» شاكيا، وانقشعت الغمة بموافقة البرلمان على تخصيص 8 آلاف جنيه جديدة لاتمام العمل، وتعاقدت وزارة الأشغال مع مختار فى أغسطس 1927على إتمام التمثال خلال 13 شهرا، لكنه أتمه فى ستة أشهر، وظل يرتقب إزاحة الستار عنه، وعقب افتتاحه ترددت فى البرلمان رغبة فى مكافأته، فقال رئيس الوزراء:«إن المجد والفخار اللذين أحرزهما مختار بإقامة تمثاله فى أكبر ميادين العاصمة يفوق كل مكافأة مادية»، يؤكد «أبوغازى»: «لم يحصل مختار على أى تقدير رسمى من نياشين أو أوسمة».
توفى «مختار» عن 43 عاما (10 مايو 1891- 28 مارس 1934) ووصفه طه حسين بمجلة الرسالة «إبريل 1934» قائلا: «رد مختار إلى مصر بعض حظها من المجد الفنى، ومكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل».