تحرك علماء الأزهر الشريف، ضد الدكتور طه حسين، بسبب تأليفه كتاب «فى الشعر الجاهلى» عام 1926، وأخذ هذا التحرك أشكالا مختلفة، فبعد أيام من نشر الكتاب توجه وفد من علماء الأزهر وهيئة كبار العلماء يتقدمهم شيخ الجامع محمد أبو الفضل الجيزاوى، إلى قصر عابدين، ليرفعوا إلى الملك فؤاد وحكومته المسؤولة عن حماية دينها الرسمى، يطالبونه بالقيام بواجبه نحو حماية الدين الذى هم دعاته وممثلوه، ثم توجهوا إلى أحمد زيور باشا رئيس الوزراء يطالبونه بمحاكمة طه حسين ومصادرة كتابه، وفصله من وظيفته لأنه تعرض للدين الإسلامى، حسبما تذكر الدكتورة «زوات عرفان المغربى» فى كتابها «هيئة كبار العلماء - 1911 - 1961» «سلسلة تاريخ المصريين - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة».
لم يكتفوا بذلك، بل كتبوا أيضًا إلى مدير الجامعة المصرية «القاهرة حاليا» يطالبونه بمصادرة الكتاب المطبوع فى 183 صفحة بدار الكتب المصرية، ومحاكمة المؤلف الذى يعمل أستاذًا فى هيئة تدريسها بكلية الآداب، وتذكر «المغربى»، أنه بعد أيام قلائل اجتمع مجلس الجامعة لمناقشة الموضوع وفوض مدير الجامعة باتخاذ ما يلزم فى هذا الشأن، وفى 27 مايو 1926 عرض طه حسين تسليم باقى نسخ الكتاب لتفعل بها ما تشاء، وتسلمت الجامعة باقى النسخ بالفعل، واشترت 34 نسخة كانت باقية لدى مطبعة الهلال، وتم وضع الجميع فى صناديق جرى ختمها بالشمع الأحمر وحفظها فى المخازن.
لم تهدأ ثائرة علماء الأزهر بهذا الإجراء، بل قاموا بتصعيد الأمر ببلاغ إلى النائب تقدم به «خليل حسنين» الطالب بالقسم العالى بالأزهر فى 30 مايو، مثل هذا اليوم، 1926، وتذكر «المغربى»: «اتهم البلاغ طه حسين بأنه «ألف كتابا أسماه «فى الشعر الجاهلى» ونشره على الجمهور، وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن الكريم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى الكريم».
ترى «المغربى» أنه كان من الممكن أن يحفظ هذا البلاغ ولا يلقى اهتماما مذكورا، لولا أنه وبعد أقل من أسبوع وبالتحديد فى 5 يونيو أرسل شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوى خطابا للنائب العام يبلغه فيه تقريرا أعده علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين أسماه «فى الشعر الجاهلى» كذب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبى عليه الصلاة والسلام، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك سائرة المتدينين وأتى بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى، وطالب التقرير اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمى وتقديمه للمحاكمة، وأرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير العلماء.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، ففى 14 سبتمبر 1926، تقدم عضو مجلس النواب عبدالحميد اللبان ببلاغ آخر، وتذكر «المغربى» أنه أمام تعدد البلاغات بدأ رئيس النيابة محمد نور التحقيق فى القضية، ووفقًا لمجلة «القاهرة» «الهيئة العامة للكتاب - القاهرة - أبريل 1995» فى عددها الخاص عن هذه القضية، فإن «نور» قرأ الكتاب ومجمل البلاغات ضده، وانتهى إلى تحديد الاتهامات، وشملت: قيام المؤلف بإهانة الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ورأى أن ورودهما فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، وأن المؤلف أنكر القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعًا، ويزعم عدم إنزالها من عند الله، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه، كما شملت الاتهامات، إنكار المؤلف أن للإسلام أولية فى بلاد العرب وأنه كان دين إبراهيم الحنيف، أما الاتهام الرابع فهو، إن المؤلف ذكر النسب النبوى بما يوحى بالاستخفاف.
بدأ «نور» تحقيقاته فى 19 أكتوبر 1926، وتؤكد «المغربى» أنها كانت «المرة الأولى بمصر التى تحقق فيها النيابة العامة فى قضية فكرية بحتة»، وبعد سماع دفاع طه حسين عن التهم الأربع الموجهة ضده قررت النيابة حفظ أوراق التحقيقات إداريًا لأن القصد الجنائى غير متوافر، وقال «نور» فى قراره: «غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما أوردها على سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها»، وهكذا أغلقت النيابة ملف القضية من الجانب القضائى، وأعاد طه حسين طبع الكتاب باسم جديد «فى الأدب الجاهلى»، وحذف منه الفقرات التى تسببت فى الضجة، ورغم ذلك ظلت القضية مطروحة حتى عام 1932، حيث أحيل طه حسين إلى التقاعد ومصادرة الكتاب.