كشفت مذكرات الرئيس الأمريكى السابق جورج دبليو بوش "قرارات مصيرية"، التى نشرها منذ أيام، الأهداف الحقيقية لغزو العراق، حيث كذب التقارير الاستخباراتية حول امتلاك نظام صدام حسين آنذاك أسلحة دمار شامل، تلك الذريعة التى اتخذتها الإدارة الأمريكية ستاراً لاحتلال بلاد الرافدين والإطاحة بنظام صدام.
اعترافات "بوش" بالخطأ لم تكن الوحيدة، بل تبعها إعلان رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، حليف بوش فى تلك الحرب الغاشمة، تحمل المسئولية كاملة عن غزو العراق، قائًلا، "أتحمل المسئولية كاملة عن غزو العراق"، عقب إعلان نتائج تحقيق جون تشيلكوت الذى أكد مبالغة رئيس الوزراء البريطانى فى الحجج التى ساقها لتبرير الغزو العسكرى، الذى أدى إلى مقتل 179 جندياً بريطانياً بسبب معلومات مغلوطة، على حد وصف التقرير.
اعترافات "بوش وبلير" بالخطأ تطرح تساؤلاً مشروعاً حول تقديم أمريكا اعتذاراً عن غزو العراق وتدمير البنية التحتية له فى حرب خلفت مئات الآلاف من الضحايا، وإلى متى يدفع العرب ثمن حماقات عائلة بوش "الأب والابن"؟.
الرئيس الأمريكى يحاول، فى مذكراته، تبرير إحدى أكبر الخطايا الأمريكية وجرائمها فى حق الإنسانية، والتى استخدمت خلالها أسلحة محرمة دولياً، أوقعت مئات الآلاف من الضحايا، مستخدمة ذريعة محاربة الإرهاب وتحقيق الأمن الأمريكى، وأنه جاء لنصرة السلام العالمى، ولصالح حرية العراقيين أنفسهم، خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، محاولا كسب تعاطف الرأى العام الأمريكى والعالمى، إلا أنه فى الوقت ذاته يعترف باعتماده على معلومات استخباراتية مغلوطة وتقارير غير صحيحة، والنتيجة أن الشعب العراقى وحده هو الذى يدفع ثمن تهور الرئيس الأمريكى الأسبق، ومن قبله بوش الأب.
مذكرات بوش سبقها بأيام زيارة للرئيس الأمريكى باراك أوباما إلى مدينة هيروشيما اليابانية، حاملاً الورود بيديه، يبعث رسالة سلام لتلك الشعوب، مرحباً بتقديم أمريكا اعتذاراً لشعب هيروشيما، الأمر الذى وصفه البعض بأنه تطور جديد فى السياسة الخارجية الأمريكية، ما يطرح تساؤلاً حول تقديم أمريكا اعتذاراً عن خطاياها فى العراق والشرق الأوسط؟، وإلى متى يدفع العرب ثمن أخطاء تهور رؤساء الولايات المتحدة جورج بوش "الأب والابن"؟.
وكان نشر صحيفة الجارديان البريطانية، منذ أيام، نصا لمكالمة بين بوش وبلير، زعمت أنها فى ليلة غزو العراق، خير دليل على اعتراف الحليفين بالاعتماد على معلومات مغلوطة، مشيرة إلى محاولات بلير إقناع الرئيس الأمريكى بتأجيل قرار الحرب انتظاراً لقرار أممى حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، الأمر الذى قوبل بتهكم من جانب الرئيس الأمريكى، ليسخر الرجلان من هانز بليكس، مفتش الأسلحة الأممى الذى لم يجد دليلًا على وجود أسلحة دمار شامل، والذى دعاه بوش بـ"عديم القيمة"، قبل أن يتحدث عن معلومات استخباراتية مزعومة عن أسلحة دمار شامل كان ينوى صدام حسين التخلص منها.
يعتبر الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 ومن قبله حرب الخليج والحصار الذى استمر لسنوات أكبر الجرائم الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، وبالرغم من الجدل الذى أثير حول أسباب الغزو ومبرراته، واستخدام "بوش" هجمات 11 سبتمبر ذريعة للغزو والإطاحة بصدام حسين، إلا أنه لم يجلب لبلاد الرافدين سوى الخراب والفوضى، وإن كان التحالف الذى قادته أمريكا استطاع إسقاط نظام صدام حسين، إلا أنها ساعدت على ولادة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها داعش، وما ألحقه بالبلاد من خراب ودمار.
ما زال العرب يدفعون ثمن تهور عائلة جورج بوش (الأب والابن)، حيث لعب بوش الأب دور "مهندس الحرب" لإسقاط الدولة العراقية قبل 25 عاماً، وكان غزو صدام حسين للكويت بداية سقوط بلاد الرافدين، وكشف المؤامرة الاستعمارية لإسقاط البلاد العربية، وحمل بوش لواء إشعال الفتنة بين الدول العربية، وتشجيع الرئيس العراقى على غزو الكويت، ولعل رسائله إلى صدام وتحريضه إياه على غزو الكويت خير دليل على تأجيج نار الفتنة وتأليب الدول العربية بعدها لمواجهته وإخراجه من الكويت، وبعد ساعات من اجتياحه للكويت سارعت أمريكا بالدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لاتخاذ قرار بضرورة انسحاب العراق من الأراضى الكويتية وفرض عقوبات اقتصادية ضده، فضلاً عن تشكيل ائتلاف عسكرى من 34 دولة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن بالانسحاب من الأراضى الكويتية، وكانت نسبة الجنود الأمريكيين فى الائتلاف حوالى 74%.
وجاء "بوش الابن" ليكمل مسيرة والده، وتنفيذ الأجندة الأمريكية لتفكيك الشرق الأوسط، متخذاً قراراً بغزو الأراضى العراقية عام 2003، وبالرغم من اختفاء المبررات الرسمية لهذا الغزو العجيب الذى شاركت فيه قوات ضخمة يمكن بواسطتها خوض حرب عالمية ثالثة لا احتلال بلد صغير نسبياً مثل العراق، وحشد الأمريكيون وحلفاؤهم الجيوش المجيشة لتلك الحرب التى خلفت مئات الآلاف من القتلى المدنيين والعسكريين، فضلاً عن تدمير البنية التحية للبلاد، بذريعة وجود أسلحة دمار شامل بحوزة نظام صدام، وبالرغم من تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعدم امتلاكه أسلحة، إلا أن إصرار وعناد الرئيس الأمريكى على قرار الحرب وإسقاط نظام صدام، الأمر الذى أدخل البلاد فى نفق مظلم حتى الآن، وحوله إلى أرض خصبة للجماعات الإرهابية المتطرفة ترتع فيه لتهديد دول العالم.
وبالرغم من إبداء الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن ندمه بسبب حرب العراق واندلاعها بسبب معلومات استخباراتية خاطئة، واعترافه باعتماده على معلومات خاطئة حول امتلاك نظام بشار أسلحة دمار شامل، والتى كانت مجرد ستار لغزو بلد عربى وامتلاك جميع كنوزه النفطية، والأمر ذاته يعززه اعترف وزير الخارجية الأمريكى السابق "كولن باول" بأن إدارة بوش الابن ارتكبت أخطاءً استراتيجيةً جسيمةً خلال غزوها العراق، إلا أن أمريكا رفضت تقديم اعتذار عن تلك الكارثة الإنسانية وما خلفته من ضحايا ودمار، فضلاً عن دخول البلاد فى حالة فوضى حتى يومنا هذا.
اعتراف بوش الابن بالخطيئة كان فاضحاً لسياسة الهيمنة الأمريكية أمام العالم، وكشف سياساتها الاستعمارية للبلاد العربية، وهو ما تحقق بالفعل بعد تفكك خمس دول فى المنطقة، ثلاثة منها كانت بتدخلات أمريكية مباشرة هى "أفغانستان والعراق وليبيا"، وأصبحت "اليمن" أرضا خصبة لتدخل عسكرى وشيك لإنهاء الأزمة، فيما تعانى الدولة الخامسة "سوريا" من فوضى عارمة ومذابح يومية يقوده نظام بشار الأسد، وبالرغم من الموقف الأمريكى وتأييده للثورة السورية إلا أنه لم يرق إلى التدخل العسكرى، كما حدث فى ليبيا، الأمر الذى يثبت نظرية إضعاف الجسم العربى وتفكيكه قبل التدخل العسكرى والاستعمار.
وبعد مرور أكثر من ربع قرن على تدمير العراق بالسياسة الأمريكية، واعتراف بوش بالخطأ فى غزو العراق، تجد أوباما، وهو يلعب فى الوقت الضائع قبل الخروج من البيت الأبيض، وقبل أيام معدودة على انتهاء فترة ولايته، يحاول تحسين صورته أمام ضحايا التهور الأمريكى حاملاً باقات الورود لشعب هيروشيما، واصفاً نفسه بأنه يحمل السلام للعالم، وأن جميع الشعوب يمكنها العيش بلا نزاعات أو حروب، ملمحاً بأن أمريكا سوف تقدم اعتذاراً رسمياً لتلك الشعوب المنكوبة، محاولاً التكفير عن الخطايا الأمريكية التى انتهجت العنف والدمار على مدار تاريخها، فلماذا لا تقدم أمريكا اعتذاراً رسمياً للشعوب العربية التى لحقها الدمار بأيدى أمريكية بحتة ومنها العراق وليبيا واليمن، فضلاً عن سوريا، والبقية تأتى..