عندما دعا الرئيس الأمريكى باراك أوباما، شرطة بلاده إلى تطهير صفوفها وإصلاح أوضاعها صباح الجمعة الحزين، كان الأوان قد فات وظهر بوضوح لمن يتابع المجتمع الأمريكى وتحولاته أن الحرب الأهلية الأمريكية لم تنته، وأن العنصرية ضد السود والملونين والأجانب مازالت متجذرة فى المجتمع، فقد أعادت الأحداث المتتابعة خلال الأيام القليلة الماضية ذكريات دامية تتكرر باستمرار البطل فيها رجل الشرطة ببذلته الزرقاء وسلاحه الجاهز للقتل ودائما ما تكون الضحية رجلا أسود.
فى أغسطس 2015، اندلعت احتجاجات واسعة فى سانت لويس بولاية ميزورى، إثر مقتل شاب أسود أعزل برصاص قوات الشرطة أثناء اعتقاله، واستمرت الاحتجاجات عدة أيام وقعت فيها اعتداءات بين المواطنين السود والشرطة، وأدت إلى موجة من الانفلات الأمنى ونهب المحال وحرق السيارات، قبل أن تتدخل قوات الأمن المدعومة بالشرطة الفيدرالية لإنهاء الاحتجاجات بالقوة.
وفى ديسمبر من نفس العام، اندلعت احتجاجات واسعة فى نيويورك إثر مقتل الطفل الأسود تامير رايس 12 عاما على يدى شرطى أبيض، بدعوى أن الطفل الأسود لوح فى وجه الشرطى بلعبة بلاستيكية على هيئة مسدس مما اعتبره الشرطى تهديدا، وتجددت الاحتجاجات بعد أن برأت المحكمة الشرطى الأبيض.
لكن الاحتجاجات التى اندلعت خلال الأيام القليلة الماضية فى دالاس –تكساس، بعد مقتل مواطنين أسودين على أيدى الشرطة فى حادثين منفصلين بولايتى مينيسوتا ولويزيانا، هى الأعنف والأكثر تعقيدا، فقد أدت الاحتجاجات الواسعة إلى هجمة مضادة على قوات الشرطة وظهور قناصة على أسطح المبانى لاستهدافهم وبالفعل سقط خمسة من رجال الشرطة وأصيب سبعة آخرون، وظهر الطرف الثالث سريعا وتزايدت حوادث العنف والنهب والحرق وبدت الأمور تسير فى طريق الانفلات الأمنى، الأمر الذى يذكرنا بمشاهد ثورة 25 يناير فى مصر، والتى لم نفهمها ولم نستوعبها إلا بعدها بسنوات عندما بدأت المصالح تتعارض والمخططات الخفية تظهر والمخرجون المنفذون يعلنون عن أنفسهم فى وسائل الإعلام بجرأة.
مشاهد الانفلات الأمنى والقناصة وإطلاق النار العشوائى على المحتجين ونهب المنشآت العامة والخاصة، وتصاعد ردود الفعل تدريجيا من قبل المواطنين السود فى مناطق بعيدة نسبيا عن الأحداث، يشير إلى دائرة الرفض فى أوساط السود والملونين لعنف القوة البيضاء التى تحتكر السلاح والقتل تتسع وتتخذ أبعادا جديدة، وأن شبح الاحتجاجات العنيفة المسلحة التى يمكن أن تؤدى إلى ما يشبه الحرب الأهلية يلوح بقوة كاختيار وحيد للسود الذين يشعرون بوطأة العنصرية وأن جهود مارتن لوثر كينج لأن تكون المواطنة والمساواة هى الأساس فى المجتمع الأمريكى تنفرط وتتحلل.
شبكة "سى أن إن" أفادت فى تقرير لها، بأن مقتل خمسة ضباط بالرصاص هو الهجوم الأكثر دموية على الشرطة منذ هجمات سبتمبر الإرهابية عام 2001، وفقا لإحصاءات قوات تنفيذ القانون الأمريكية، ولكن الشبكة الأهم والتى تلعب دورا كبيرا فى بسط السياسات الأمريكية فى الداخل والخارج لم تشر إلى أى مدى تراجعت عبارة مارتن لوثر كينج: "عندى حلم بأنه فى يوم من الأيام سيعيش أطفالى الأربعة فى شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوى عليه أخلاقهم"، ومن المسئول عن هذا التراجع؟ وإلى أين يؤدى تجاهل الإدارة الأمريكية لتصاعد وتيرة العنصرية فى البلاد؟
المفارقة أن تصاعد معدلات القتل من أفراد الشرطة تجاه المواطنين السود تتصاعد فى ظل وجود أول رئيس أسود فى سدة الحكم، ولا يملك أوباما الذى يمضى عامه الأخير فى ولايته الثانية إلا أن يدعو الشرطة إلى تطهير صفوفها من القتلة والمتعصبين العنصريين، وأن يقدم العزاء تلو العزاء لأسر الضحايا السود الذين يتساقطون ومعه تسقط حجارة بنيان المجتمع، ويتحول الحلم الأمريكى إلى كابوس حقيقى من العنف والعنصرية والقتل.