الشافعى وابن تيمية وابن القيم يرفضون ترميم الكنائس أو تشييد الجديد
المتطرفون يستندون فى تحريم بناء دور العبادة لغير المسلمين على مقولة لابن عباس رواها عكرمة المطعون عليه بالكذب
تشهد مصر بين الحين والآخر حوادث طائفية بسبب بناء الكنائس، أو شائعات تحويل منازل المسيحيين إلى دور عبادة، وزادت وتيرة الحوادث منذ اندلاع ثورة 25 يناير. وبدلًا من أن تقر الدولة قوانين مدنية تستند بالأساس إلى المواطنة، وتفعيل سلطة القانون، تلجأ إلى المجالس العرفية، و"الكلمة الحلوة" واستضافة شيوخ وقساوسة يقبلون بعضهم بعضًا، فيما تنتشر من وراء ظهورهم ثقافات الكراهية والرفض.
أحدث المشكلات الطائفية التى اندلعت بسبب بناء الكنائس أو اتخاذ المنازل مقرات للصلاة، شهدتها محافظة المنيا، واحدة من أكثر محافظات مصر فى انتشار الأصولية والطائفية مع محافظتى أسيوط وسوهاج. وأدى الحادث إلى حرق منازل يملكها مسيحيون ومشاجرات واعتداءات بزعم أن قبطيًا يبنى بيته ليتخذه مقرًا للصلاة.
وحسب تقرير المبادرة المصرية حول حرية المعتقد؛ فالمنيا مركز رئيسى للعنف الطائفي، سواء كان مرتبطًا ببناء الكنائس أو إقامة الشعائر الدينية للمسيحيين، أو على خلفية شائعات بشأن علاقات عاطفية بين مسلمين ومسيحيين، أو فى حالات مشاجرات عادية سرعان ما تتحول إلى عنف جماعي.
ولا يعرف أحد لماذا لم تقر الحكومة أو البرلمان قانون دور العبادة الموحد! ومن المقرر أن يناقش مجلس الوزراء مشروع قانون بناء وترميم الكنائس، والمؤشرات تبدو أنه قانون خاص بالكنائس، ليبقى بناء المساجد "سداح مداح"، بل فرصة أحيانًا لمن يخالف فى البناء أن يتهرب من تنفيذ أوامر الإزالة بتخصيص الدور الأرضى "زاوية للصلاة" أو مسجدًا، بالتالى يكتسب العقار المخالف حصانة دينية!!
فى مشكلة الطائفية، وما يختص بمسألة دور العبادة تحديدًا، يشيع بين مسلمى مصر، بمستويات تعليمية مختلفة، أن الدين الإسلامى يمنع بناء الكنائس فى البلاد "الإسلامية"، وإن تهدمت كنيسة لا يجوز تجديدها أو بناؤها. هكذا يعيش أغلب المصريين بمثل هذه الأفكار التى عند مناقشتها لن نجد لها أصلًا قرآنيًا أو نبويًا.
وقبل أن نستعرض عددًا من الرؤى الأصولية الرافضة لبناء أو ترميم الكنائس فى البلاد العربية أو البلاد ذات الأغلبية المسلمة، نشير إلى أن جلّ هذه الآراء كما بنيت على تعصب ضد المختلف دينيًا من قبيل رفض الآخر، بُنيت أيضًا على رواية ابن عبَّاس التى يرفض فيها بناء الكنائس، وسنعود إلى مناقشتها. وهى الرواية التى دفعت القاضى والفقيه الشافعى تقى الدِّين السُّبكى "683 ه- 756ه" بالقول: "وقد أخَذ العلماء بقول ابن عبَّاس هذا، وجَعلوه- مع سكوتِ بقيَّة الصَّحابة - إجماعًا".
ونشدد على أن رؤيتنا بالأساس مدنية علمانية ترى فى المصريين "مواطنين" متساويين فى الحقوق والواجبات، لكن تفنيد الرؤى الأصولية فى ظل انتشار ثقافات رجعية أمرًا ضروريًا.
نبدأ من الإمام الشافعى ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة "150هـ-204هـ"، الذى طالما تناولنا رؤاه التى لا يستند فيها إلى أدلة فى أغلب المرات، بل يصدرها كمشرع ومصدر للفتاوى، هنا يُحرم عمل المسلم فى بناء الكنائس أو ترميمها أو إصلاح أى شيء فيها، ويقول ما نصه عن المسيحى "ولو أوصى بثلث ماله، أو شيء منه يبنى به كنيسة لصلوات النصارى، أو يستأجره خدمًا للكنيسة، أو تعمر به الكنيسة، أو يستصبح به فيها، أو يشترى به أرضًا فتكون صدقة على الكنيسة، أو تعمر به، أو ما فى هذا المعنى كانت الوصية باطلة"، ثم أورد "أكره للمسلم أن يعمل بنّاء، أو نجارًا، أو غير ذلك فى كنائسهم التى لصلاتهم"، لا أعلم يرى الشافعى كراهة فى الأمر على المسلم، ولماذا يحكم نيابة عن الناس؟ المصيبة الكبرى أنه جعل هواه سندًا للتشريع، وهو ما اعتاد عليه الشافعي، ونوصى بقراءة ما كتبه المفكر الراحل على مبروك، أستاذ الفلسلفة عنه الذى أنتهى بالتحليل إلى تأليه صاحب المذهب المعروف بالوسطية إلى تأليه ذاته!!
انطلاقًا من الوسطية المزعومة نقل ابن تيمية "661-728هـ"، أنه من غير الجائز أن يؤجر المسلم الأرض الموقوفة على الكنيسة، كذلك شراؤه ما يباع للكنيسة، "كى لا يعينهم على ما هم فيه"!!، هنا نحن إزاء خطاب ليس فقط يقصى الآخر؛ بل يعاديه ويعلنه العداء الدينى حتى وإن كان شريكًا فى الوطن، الوطن الذى لا مكانة له فى الأدبيات الأصولية إذ يغدو الدين "وطنًا" فى عملية واضحة لخلط المفاهيم، وتسقط طبعًا كل الأقعنة التى تيمحك فيها الأصوليون فى مصر تحت التعايش السلمي، فأولئك يعتبرون ابن تيمية والأصوليون من قبله ومن بعده "جمهور العلماء" الواجب أتباعهم، حتى وإن خلت "فتاواهم" من أسانيد دينية.
ينقل ابن تيمية أن "مذهب أحمد فى الإجارة لعمل ناقوس ونحوه، فقال الآمدي، (يقصد سيف الدين الآمدى الحنبلى ثم الشافعي)، لا يجوز. رواية واحدة، لأن المنفعة المعقود عليها محرمة، وكذلك الإجارة لبناء كنيسة، أو بيعة، أو صومعة، كالإجارة لكتب كتبهم المحرفة". لاحظ عبارة لا يجوز رواية واحدة، هكذا دون دليل أو سند فقط لأن الآمدى قال وأحمد ذهب.
استمرارًا للنهج الشافعى يتشدد القاضى تقى الدين السبكى فى رفض بناء الكنائس، للعلم ولد فى مصر وأشعرى العقيدة وله مؤلفات فى الرد على ابن القيم ووصف "كتاب العرش" لابن تيمية بأقبح كتبه!!
• التكفريون مصريون هذه المرة؟
تحتاج مسألة ربط التطرف والتشدد بالبداوة والصحراء وربط التسامح واليسر بالحضر والمدن إلى إعادة نظر، فأغلب المتشددين لم يكونوا أبناء بداوة كما صُدر لنا.. المهم.. يرى السُبكى أن "بناء الكنيسة حرامٌ بالإجماع، وكذا ترميمها".. يعيد استخدام مفردة الإجماع، السيف الذى يسلطه السلفيون والأصوليون فى وجه أى رأى مخالف.
ويستطرد السبكى "ولو وصَّى ببناء كنيسة فالوصية باطلة، لأن بناء الكنسية معصية وكذلك ترميمها، ولا فرق بين أن يكون الموصى مسلمًا أو كافرًا، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية -مسلمًا كان الفاعل لذلك أو كافرًا"، كذا بنص السبكي. تخيل أو أن مسيحيًا، يسميه السبكى كافرًا، أراد أن يوصى ببناء دور عبادة لا يجوز له!!
ويأتى ابن القيم "691- 751ه"ـ لتفسير تحريم بناء الكنائس ووضع درجات لذلك من وجهة نظره، مقسمًا ديار المسلمين إلى ثلاثة أنواع؛ الأول: بلاد أنشأها المسلمون فى الإسلام، كالبصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة، "أيوا القاهرة بناها العرب المسلمون"، والثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام، فافتتحها المسلمون عَنوة وملكوا أرضها وساكنيها، "هكذا يصفها ابن القيم"، معلهشى عديها.. والنوع الأول لا يجوز بناء كنائس أو ترميمها، أما الثانى فبقاء الكنائس على حالها وارد أو ما تقتضيه المصلحة العامة التى يقرها "الحاكم"!! أما النوع الثالث فهى بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحًا، فالعقد حينذاك شريعة المتعاقدين، لكن طبعًا لا يفوت ابن القيم أن يوصى بالعمل على الاشتراط على عدم بناء صومعة أو كنيسة ولا يصلحون ديرًا.
وبعيدًا عن هراء العصور الوسطى، ومراحل الانحدار الحضارى، يصدر الوهابيون فتاوى تنص على "صار من ضروريات الدين تحريم الكفر الذى يقتضى تحريم التعبد لله، على خلاف ما جاء فى شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواءً كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية"!! وانتهت إلى أن "السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس أو تخصيص مكان لها فى أى بلد من بلاد الإسلام من أعظم الإعانة على الكفر"، أى أن سلطة سياسية تسمح ببناء الكنائس فطبقًا للفتوى السعودية هى سلطة كافرة!!
*لكن هذا خاص بالجزيرة العربية؟
وعلى الرغم من أن الفتوى كانت إجابة عن سؤال خاص بجزيرة العرب، إلا أن الفتوى وكما نتبين من نصها تنتهى إلى منع بناء دور العبادة لغير المسلمين "فى أى بلد من بلاد الإسلام"، ولنفترض أن الفتوى خاصة بالجزيرة فقط، جزيرة العرب هنا لا تعنى السعودية فحسب، بل تعنى ما يُعرف الآن بمجلس التعاون الخليجى إضافة إلى اليمن والأردن، وبالطبع هذه الفتوى تضع السلطات فى هذه البلدان فى حرج، هل تعلم أن أبو ظبى قررت بناء معبد هندوسى العام الماضى؟ وهو ليس المعبد الأول بالإمارات العربية، ففى عام 1958، منح الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم إذنًا لقيام المعبد الهنودسى الأول فى دبي، وأقيم فى الطابق الأول فى أحد مبانى السوق القديمة فى بور دبي، وكان معبدًا للهندوس والسيخ معًا، ثمّ انفصل السيخ عن الهندوس عام 2012، وأقاموا معبدهم الخاص فى جبل علي.
كذلك تحرج الفتوى السلطات فى البلاد التى يدين بعض مواطنيها بدينات غير الإسلام، ومع انتشار الوهابية والتسلف بهذه الأفكار التى يحملها الناس وتتسبب فى مشكلات طائفية يدفع المجتمع ثمنها من استقراره.
• وما رأى دار الإفتاء المصرية؟
تتخذ دار الإفتاء والأزهر فى مصر موقفًا تقدميًا وتشدد على أنه "لا يوجد أى نص فى القرآن أو السُّنة يحض على هدم الكنائس أو الاعتداء عليها أو يحرم بناء الجديد منها" إذن بناء الكنائس مسألة لا مانع فيها، ومع ذلك ظلت السلطات السياسية تتبع ما عرف بالخط الهمايونى فى التعامل مع الكنائس، إلى أن أجريت بعض التعديلات التى شطبت على الخط الهمايونى.
* ماذا يعنى الخط الهمايوني؟
أى تفعيل قانون عثمانى وضعه السلطان عبد المجيد الأول فى فبراير 1856، الغرض منه تنظيم بناء دور العبادة فى جميع الولايات التابعة للدولة العثمانية، يطبق على كل الملل والأديان غير الإسلامية.
• كيف يختلف الأزهر على الرغم من إشهار موقف الإجماع؟
"الإجماع" وهم غالبًا ما تلجأ إليه الجماعات الأصولية لغلق النقاش فى أى قضية لا تريد للنقاش فيها سبيلًا، وسبق أن أشرنا إلى أن الفقهاء قاطبة ما أجمعوا عليه هو التوحيد والنبوة والفروض. كذلك يرى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق أن الإجماع بالأساس ليس إجماع أمة إنما "إجماع طائفي".. وسيسقط الإجماع فى مسألة رفض بناء الكنائس بمجرد أن تعلم أن أبا حنيفة النعمان والليث بن سعد لم يمنعا بناء الكنائس وأجازاه!! وهو الرأى الذى أخذ به الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة "قاضى مصر" والإمام محمد بن القاسم تلميذ الإمام مالك، ثم شيوخ الأزهر.
أباح أبو حنيفة بناء الكنائس فى قرى الكوفة لأهلها "الأكثرية" من المسيحيين، فيما لم يجز الليث بن سعد بناء الكنائس أو تجديدها فحسب، بل اعتبر أن الاعتداء على الكنائس اعتداءً على مساجد الله التى يجب أن يرفع فيها اسمه، علينا النظر فى الإنسانية الفقهية هنا! وحينما تعرض أحد ولاة مصر للكنائس كتب «الليث» للخليفة، مطالبا بعزل الوالي. ولم يكن رأى ابن سعد مجرد هوى أو ميل بل استنادًا إلى أدلة قرآنية ونبوية، الأخيرة نذكر منها الحديث "من أذى ذميًا فأنا خصمه" ولا يوجد أكثر من الأذى فى الدين. وبصيغة «من أذى ذميا حٌدَّ (عوقب) يوم القيامة بسياط من نار». وحديث "استوصوا بالقبط خيرًا"، أما الدليل القرآنى 114 من سورة البقرة "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِى خَرَابِهَا" وهى الآية التى نزلت فى أهل مكة "الوثنين" الذين حالوا بين الرسول يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة، كما يروى الطبرى عن ابن زيد، ويتفق فى ذلك ابن اسحاق وابن كثير.
• الآية تقول مساجد..
المساجد ليست فقط أماكن صلاة المسلمين، وإنما هى مقرات الصلاة عمومًا، فالنبى نفسه أشار إلى أن اليهود والمسيحين اتخذوا من قبور أنبيائهم "مساجد" بنص الحديث. ولغويًا مسجد: اسم مكان من سجَدَ، مُصلَّى الجماعة، مكان يصلّى الناس فيه جماعة، حتى ولو كان سجودًا للأوثان كما كان حال المسجد الحرام قبل الإسلام.
• ماذا عن حجة الأصوليين؟ رواية ابن عباس..
بجانب الهوى والتعصب الأعمى وكراهية الشريك الإنساني، أى المختلف عقائديًا، استند المتعصبون والأصولين إلى رواية ابن عباس، لاحظ أنه كلام ابن عباس وليس قرآنًا أو حديثًا، وورد الرواية فى كتاب "الأموال" لأبى عُبيد القاسم بن سلَّام، و"مصنف ابن أبى شَيبة" عن عِكرمة، قال: سُئِل ابن عبَّاس عن أمصار العرب، أو دار العرب؛ هل للعجم أن يُحدِثوا فيها شيئًا؟ فقال: "أيُّما مِصرٍ، (بلد) مَصَّرتْهُ العربُ فليسَ للعَجمِ أن يبنوا فيهِ بناءً، ولا بيعةً، ولا يضربُوا فيه ناقوسًا".
الإشكالية فى الحديث السابق تتعلق براويه "عكرمة"، أبو عبد الله مولى ابن عباس، حيث تحيط به عدة شبهات واتهامات، واتهم بالكذب من قبل ابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعلى بن عبد الله بن عباس ويحيى بن سعيد والقاسم بن محمد وعطاء الخرساني. لكن ابن حجر حاول تبرئته، واستند فى بيان البراءة إلى الاحتمالات، حيث قال "يحتمل أن يكون المراد بالكذب الخطأ كما هو فى لغة أهل الحجاز" وقال "يحتمل أنه أنكر عليه مسألة من المسائل كذبه فيها ثم ذكر رواية تدل على أنه أنكر عليه روايته عن ابن عباس فى الصرف"!! كلها احتمالات فى محاولة لتبرئته. ومسألة الخطأ اللغوى كون عكرمة بربري، الغريب أن لا ترجمة وافية ومستوفية لهذا الرجل، وتكتفى كتب التراجم بسطور عنه "مولى ابن عباس"، ولا تجد من يسوق له نسبًا أو كنية!! ونستنتج من ذلك التشكيك فى الرواية لبربريته "أى من سكان شمال إفريقيا"/ الأمازيغ، ولرميه بالكذب، ولعدم معرفة وافية عنه بالشكل الذى يسمح بمناقشته، الأمر الذى ينتهى إلى التشكك فى قول ابن عباس برمته.. وليصدق ابن عباس، بالتأكيد هو رأيه، ربما يصلح لزمانه، وغير مستوفى الأسانيد اللازمة. ومن هنا يستند الأصوليون إلى رواية واهية.