"الحركة أصبحت جزءا من الدولة.. نخرج من الإسلام السياسى لندخل فى الديمقراطية المسلمة.. نريد النأى بالدين عن معارك السياسة.. ندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن الخصومات السياسة والتوظيف الحزبى، حتى تكون المساجد مُجمعة لا مُفرقة"، بتلك الكلمات، أعلن راشد الغنوشى، مؤسس وزعيم حركة النهضة التونسية، فى مؤتمر الحركة العاشر ، مايو 2016، بحضور الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى، فصل العمل بين النشاطات الدينية والحزبية.
كلمات "الغنوشى" وصفها كثير من المراقبين بأنها بداية"انفصال عن جسد الإخوان"، ودعم هذا الرأى رسالة منسوبة لزعيم حركة النهضة، نشرها موقع فلسطينى شهر مايو الماضى،
وجهها لمؤتمر الإخوان فى تركيا، أكد فيها اقتراب ما أسماه "لحظة الافتراق"، وقال فيها: "أنا الآن أعلن أمامكم أن تونسيتى هى الأعلى والأهم، لا أريد لتونس أن تكون ليبيا المجاورة ولا العراق البعيد، أريد لتونس أن تحمى أبناءها بكل أطيافهم وألوانهم السياسية، أنا وبالفم الملآن أعلن لكم أن طريقكم خاطئ وجلب الويلات على كل المنطقة".
أدرك "الغنوشى" أن النهضة لم تعد حركة احتجاج، كل ما يشغلها حماية نفسها وتجييش الرأى العام ضد نظام الحكم، بقدر ما باتت معنية بحماية كيان الدولة والمساهمة فى البناء والاستجابة لمطالب الناس وترجمة همومهم فى التنمية والارتقاء بالتعليم والصحة ومواجهة مخاطر تهديد الوطن.
الحركة التونسية نجحت فى معركة "ازدواجية التنظيم"، فلم تبق هناك جماعة خارج الحركة والقانون تضغط على خياراتها ومستقبلها، وقبلت بقواعد اللعبة الديمقراطية، كما أنها اتخذت قرار "إعلاء تونس" على الحزب حين اختارت التوافق الوطنى والتنازل عن الحكم قبل نهاية عام 2013 .
تردد إخوان مصر
أما "إخوان مصر"، والذين كلفهم إصرارهم على عدم فصل العمل الدعوى "الإخوان" عن الحزبى "الحرية والعدالة" خسارة الحكم بعد عام من تولى محمد مرسى السلطة ( 30 يونيو 2012- 30 يونيو 2013)، فمازال موقفهم غامضا ويبدو أنهم لن يتخذوا مثل هذا القرار فى القريب العاجل.
ما يؤكد هذا الرأى إصدار جناح القيادة التاريخية فى تنظيم الإخوان، الذى يتزعمه محمود عزت القائم بأعمال المرشد، بيانا فى مايو الماضى، أكد فصل 8 قيادات بالجماعة، تبنوا وثيقة فصل العمل الدعوى عن السياسى وإعادة انتخاب مكتب جديد للإرشاد.
الخاسرون من السياسة
بعد ثورة 25 من يناير 2011 ، هجرت تيارات الإسلام السياسى "الإخوان والدعوة السلفية والجماعة الإسلامية" منابر الدعوة إلى دهاليز السياسة، وطغى حديثها عن الانتخابات والتحالفات، على الدعوة والفقه والتربية، وباتت مجالسهم تتناول محمد مرسى وأحمد شفيق، مرشحا انتخابات الرئاسة 2012، أكثر من ذكرها الشافعى وابن تيمية، كما تبدلت أولوياتها وفقدت بوصلتها ورصيدها المجتمعى، وتحولت علاقتها بالمواطنين من "قمة العطاء"، إلى "منحدر الأخذ".
الحركات والتنظيمات الإسلامية، لم تترك الحكم والسلطة للأحزاب السياسية، وانتقلوا، بطريقة بدا للكثير أنها "مغالبة لا مشاركة"، من معسكر المعارضة إلى إدارة الحكومات، بالإضافة لمفردات دخلت قاموس السياسة كان أبرزها "غزوة الصناديق"، عقب الاستفتاء على التعديلات الدستورية 2011، ذلك المصطلح الذى ساهم فى تشويه صورة التيار الإسلامى وزيادة حالة الاحتقان والاستقطاب فى المجتمع.
أخطر ما واجه الحركات الإسلامية، التى انكفأت على ممارسة العمل السياسى بعد الثورة، هو الدخول فى صراعات مع الأحزاب المدنية التى كان من الممكن أن تكون علاقتها بهم تشاركية لصالح بناء الوطن، لكن تلك الأحزاب استشعرت أنها أمام "مارد ضخم" يتحول من القيمية إلى البراجماتية ومن التشاركية إلى الانتهازية، وصُنع جدار من التخوين وعدم الثقة وتبددت أحلام "الاصطفاف الوطنى".
الإسلام السياسى والبراجماتية
بعد حل حزب نجم الدين أربكان فى تركيا 2001، قرر مجموعة من الشباب، تأسيس حزب "العدالة والتنمية"، الذى أعلن أنه "سيحافظ على أسس النظام الجمهورى وسيتبع سياسة واضحة للوصول إلى الهدف الذى رسمه أتاتورك "مؤسس الدولة العلمانية" لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر فى إطار القيم الإسلامية التى يؤمن بها 99% من مواطنى تركيا، هكذا جاء فى ديباجة تأسيس الحزب.
"العدالة والتنمية" الحاكم، حزب استخدم "المتاح" وهو الدستور العلمانى، لتحقيق "المحظور" وهو التشريع الإسلامى وحسّن مستوى المعيشة وخفّض معدلات الفقر ووفّر مشاريع إسكان لغير القادرين، وسدد الديون الخارجية للدولة وبدأ بالإقراض، حتى أصبحت تركيا ما عليه الآن.
كثيراً ما اتهمت المعارضة "أردوغان" وحزبه بالنفاق السياسى، فمن جهة ينادى جهاراً بالعداء لإسرائيل، فى الوقت الذى يتضاعف فيه حجم التجارة البينية بين أنقرة وتل أبيب والإعلان عن اتفاق تطبيع للعلاقات مع إسرائيل.
وظهر الإسلاميون فى مصر، على النقيض تماما، فقد تسنى لهم تقلد السلطة، لكن خطابهم كان ثورياً متهوراً، مع فقر فى الأدوات التنفيذية، وتخبط فى المنهجية وعدم الاستعداد بمشروع سياسى يجمع المصريين، وأثبتت التجربة أنه خطاب لا يليق بـ"ديمومة الدولة"، فهو يصلح فقط لتحريك الشارع، لكن الحكم لا يكون إلا بمفردات عقلانية منهجية قابلة للتطبيق على الأرض.
استقرار المجتمعات.. والدولة المدنية الحديثة
من مصلحة "الدولة والوطن"، ألا تشهد التجربة السياسية مزجا بين العمل الدعوى والحزبى، حرصا على التجربة وتطورها من ناحية، الوصول إلى عقد اجتماعى جديد بين الدولة وفئات المجتمع، يحفظ لكل هذه المكونات حقوقها، من ناحية أخرى، فلا تتعدى إحداها على الأخرى، من أجل استقرار ينشده الجميع، وهو ما أقدمت عليه "حركة الغنوشى".
الإسلاميون فى أمس الحاجة لهذا الفصل من أجل "استقرار أوطانهم"، وأن يعيدوا تموضعهم ودخول مرحلة جديدة ضمن ظروف ومعطيات وأساليب تتناسب مع "قواعد اللعبة"، وأن يكتفوا باعتماد المبادئ الدينية كإطار فكرى قيمى، فى حين يبقى للعمل السياسى قواعد وتوافقات مدنية من أجل بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة.
لن يكون فى مستقبل الأوطان مكانٌ لـ"الأيديولوجيا"، سواء كانت مدنية أم دينية، ما لم تصاحبها برامج عملية تلبى حاجات الناس، كما أن الأحزاب السياسية الدينية التى تشهد ازدهارا وارتفاعا فى شعبيتها، هى تلك التى لديها برامج واضحة، ووصلت لعقود اجتماعية مع باقى مكونات مجتمعاتها كما حدث فى "تركيا وتونس والمغرب"، أما الأحزاب التى تصر على إبقاء أنشطتها الدعوية مع السياسية والحزبية، فتشهد أزمات سياسية ومجتمعية، كما حدث مع "إخوان مصر" .