"فوت علينا بكرة.. عاوزين حق الشاى.. الإكرامية".. عبارات تلخص "الروتين الحكومى والفساد الإدارى" داخل المصالح الحكومية، ارتبطت تلك العبارات بصدور المرسوم الملكى بإنشاء ديوان الموظفين عام 1951، ومنذ ضلوع تلك الطبقة فى تقديم الخدمات الجماهيرية، من استخراج الشهادات وإنهاء أوراق السفر والإقامة ومنح الجنسية وغيرها من الإجراءات، وأصاب الجهاز الإدارى للدولة "بيروقراطية شديدة" عطلت فى معظم المؤسسات مصالح المواطنين، وترتب عليها انتشار الرشوة والفساد على نطاق واسع.
تبدأ رحلة معاناة المواطن البسيط لإنهاء إجراءاته أو استخراج أوراقه داخل المؤسسات الحكومية بعدة مراحل، يمر خلالها بطوابير طويلة، يتخللها عبارات "كمل ورقك وتعالى، أو انتظر فى نهاية الطابور"، حتى تنتهى بمطلب غريب "فين الشاى" أو "الإكرامية"، أو تكون الطامة الكبرى بعبارة "فوت علينا بكرة ياسيد"، فضلاً عن التعددية المبالغة فى التشريعات التى تتيح للموظف "التلاعب بالقانون"، الأمر الذى ساعد على توطين الفساد فى معظم المصالح الحكومية، وما ترتب عليه من جرائم الرشوة والسمسرة، وما زاد الطين بلة هو إطلاق العديد من الفتاوى للتحايل على الدين وإباحة تلك الرشاوى من الناحية الشرعية، والتى كان آخرها فتوى ياسر برهامى، نائب رئيس مجلس إدارة الدعوة السلفية، منذ أيام، التى قال فيها إن "البقشيش" ليس رشوة.
الأمر يزداد صعوبة حال اصطحابك أحد والديك لاستخراج بطاقة تموينية أو بطاقة شخصية أو أى مستخرج رسمى، فتجد معظم المصالح لا تضع بياناً بالأوراق المطلوبة، الأمر الذى يتطلب وقوفك أو أحد والديك فى طابور طويل، لتفاجأ بعد رحلة معاناة فى نهايته بالموظف يخبرك بنقص الأوراق وأنك مضطر لخوض رحلة أخرى من العذاب مع طابور آخر، وربما تقابل بعض حجج الموظفين، ومنها أن البطاقة منتهية أو لا بد من وجود ضامن وغيرها، وفى بعض الأحيان تدخل مصلحة حكومية لتجد مجموعة من الموظفين بعضهم منهمك بالعمل وآخرين مشغولون بقراءة الجرائد أو تصفح الفيس بوك، وبمجرد أن تذهب إليه يقابلك بموجة واسعة من التكشير والتأفف ولسان حاله "لست الموظف المختص"، أو "لماذا اخترتنى دونى زملائى"، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى نفور المواطنين من الموظف الحكومى، وأصبح من الصعب تغيير ثقافته للتعامل مع الجمهور، كما أصبح من الصعب أيضاً تغيير نظرة المجتمع تجاه الروتين الحكومى.
يضم الجهاز الإدارى للدولة نحو 6 ملايين موظف، تصل رواتبهم السنوية إلى 218 مليار جنيه، حسب الإحصائيات المعلنة، بعد ارتفاع أجور العاملين بالدولة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والتى كانت لا تتعدى الـ86 مليار جنيه، حتى أصبحوا عبئاً على الدولة، كما أنه من الصعب تغيير الثقافة السائدة حول سلبيات الموظف الحكومى، ومواجهة الرشوة والفساد داخل المؤسسات، وبالرغم من إعلان وزارة التخطيط والإصلاح الإدارى الحرب على الروتين الحكومى للتخلص من بلادة الموظفين وتشجيعهم على إنجاز مصالح المواطنين، بما تضمنه قانون الخدمة المدنية من بنود تستهدف قياس أداء العاملين ومدى رضا المواطن عن الخدمة المقدمة، وفرض عقوبات ـ تصل لحد الفصل ـ للمخالفين، إلا أن القانون قوبل بموجة رفض عارمة من جانب أعداد كبيرة من الموظفين.
وعلى الرغم من أن الحكومة تتحمل جزءاً كبيراً فى تأصيل الروتين داخل المؤسسات، بالاعتماد على وسائل تقليدية لخدمة الجمهور وعدم ملاحقة تكنولوجيا العصر والوسائل الحديثة، والتى تأخرنا بها كثيرا، أو الاستفادة من خدمات الإنترنت خاصة أنها حققت نجاحا كبيرا فى بعض القطاعات، وأبرزها استخدام الإنترنت فى تنسيق الثانوية العامة، والتى أثبتت نجاح التجربة فى السنوات الماضية، وتلافى أخطاء الطرق التقليدية، فضلاً عن توفير الوقت والجهد للطلاب بجميع المحافظات، الأمر الذى يطرح تساؤل، لماذا لم يتم تعميم تلك التجربة على نطاق أوسع،ـ تمهيداً لميكنة جميع أجهزة الدولة وتقديم خدمات لائقة للجمهور، فضلاً عن تجفيف منابع الفساد؟.
الحكومة فطنت مؤخراً لمخاطر آفة "البيروقراطية" التى تنهش بالجهاز الإدارى للدولة، حتى انعكست على المشروعات الاستثمارية وأثرت بشكل كبير على الاقتصاد المصرى، وعلى الرغم من تصريحات المسئولين فى جميع المناسبات عن ضرورة توفير قاعدة بيانات موحدة ومتكاملة تحقق الربط الإلكترونى بين كافة الجهات والهيئات، بالإضافة إلى ميكنة أجهزة الدولة للقضاء على الرشوة والفساد المستشرى بالمؤسسات الحكومية، فضلاً عن تطبيق منظومة الشباك الواحد بجميع القطاعات، من خلال توحيد الجهة التى يتعامل معها المستثمر وتسهيل حصوله على التراخيص اللازمة للشركات والمشروعات، إلا أنك تجد التطبيق الفعلى على أرض الواقع يكاد يكون محدوداً للغاية ولم يرق للمستوى المطلوب.
لابد ألا نغفل حقيقة مفادها أنه لا سبيل للتقدم إلا بملاحقة التطور التكنولوجى فى كافة المجالات، والتى تبدأ بإصلاح الهيكل الإدارى للدولة ومكافحة الفساد بجميع القطاعات، ومراجعة تعقيد الإجراءات داخل المصالح، واختيار القيادات الإدارية بعناية، فضلاً عن ضرورة مراعاة اختيار الكفاءات بعيداً عن المحسوبية، إضافة وضع خطط عاجلة لمواجهة الفساد الذى يرتبط بتطبيق القانون، أو منح منافع لغير مستحقيها، بالإضافة إلى ضرورة القضاء على البيروقراطية التى تؤدى إلى عرقلة الإجراءات وإطالة المدة الزمنية لإنجازها، عن طريق تنفيذ خطة الربط الإلكترونى لكافة الجهات والهيئات، وميكنة أجهزة الدولة لتطوير الأداء بشكل يحقق إنجاز الإجراءات للموظف والمواطن فى آن واحد.
وتعتبر "مدينة المعرفة"، المزمع إنشاؤها فى العاصمة الإدارية الجديدة، "بارقة أمل" وترجمة واقعية لإجراءات القضاء على البيروقراطية نحو التكنولوجيا الحديثة، حيث تعتمد المدينة على التكنولوجيا المتطورة فى جميع القطاعات، بداية من التصميمات ووسائل النقل، بالإضافة إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية، ومعالجة المياه واستخدامها فى رى المسطحات الخضراء، فضلاً عن مراعاة كافة الأبعاد البيئية.
توجيهات الرئيس السيسى واضحة فى هذا الشأن، بضرورة توفير كافة الإمكانيات المتاحة للارتقاء بالمنظومة المعلوماتية فى مدينة المعرفة، وتعظيم المنتج التكنولوجى، بالإضافة إلى أهمية إنشاء مراكز ومعاهد للتدريب التكنولوجى لتأهيل الشاب وتوعيتهم ورفع كفاءتهم بنُظم التكنولوجيا الحديثة وتوظيفها لصالح المجتمع، فضلا عن أهمية تطوير البنية الأساسية لقطاع تكنولوجيا المعلومات وامتداد خدماته لكافة أنحاء البلاد، لتحسين نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين، وإنشاء مراكز الخدمة الموحدة والتى ستقدم مختلف الخدمات للمواطنين وتيسر عليهم استخراج الوثائق والأوراق المختلفة وضمان وصول الخدمات الحكومية إليهم دون معاناة ومكافحة الفساد الإدارى، والتى نأمل سرعة تنفيذ ذلك المشروع على أرض الواقع، وصولاً للدولة المتقدمة التى ننشدها جميعاً.