-الدور المصرى منذ 2014 وبعد عودته لمكانته الطبيعية نجح فى إيقاظ الوعى القومى الأفريقى فى المحافل الدولية والتركيز على التحديات والاحتياجات للدول الأفريقية والمصالح المشتركة بعيدا عن سياسة الاستقطاب الدولى
بعد غياب 8 سنوات ومنذ إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما، تنعقد حاليا القمة الأمريكية- الأفريقية الثانية فى العاصمة واشنطن بحضور 49 رئيسا أفريقيا أبرزهم رئيس جمهورية مصر العربية عبدالفتاح السيسى، ومشاركة 70 دولة.
القمة الحالية تأتى فى ظل أوضاع دولية مضطربة واستقطاب دولى، يعيد إلى الأذهان صورة الحرب الباردة بين القطبين الروسى والأمريكى منذ الخمسينيات وحتى تفكك الاتحاد السوفيتى فى مطلع التسعينيات، وفى ظل نظام دولى تتشكل ملامحه ببطء وتبزغ فيه قوى كبرى جديدة، يراه بعض المحللين السياسيين نظاما دوليا متعدد الأقطاب، متجسدا فى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، بعيدا عن سياسة هيمنة القطب الواحد، وسط هذه الأوضاع يبدو الصراع أو التنافس الثلاثى على القارة الأفريقية مع بعض الأطراف الإقليمية الأخرى جليا مع محاولات كل طرف من الأقطاب الدولية الكبرى فى جذب دول القارة السمراء إليها من خلال القمم، التى عقدت خلال السنوات القليلة الماضية والوعود بالمساعدات والمنح، فى المقابل تنظر الدول الكبرى المتنافسة على الساحة الأفريقية للقارة السمراء على أنها- علاوة على الموقع الاستراتيجى- أحد أهم الأسواق الصاعدة والناشئة اقتصاديا والأكثر نموا فى العالم والأكثر غنى بالموارد الطبيعية والقدرات البشرية الهائلة.
القمة الثانية تأتى بعد إدراك واشنطن أنه، خلال السنوات الماضية ومنذ 2014، جرت فى الأودية الأفريقية مياه كثيرة ودعمت القوى المنافسة- روسيا والصين- علاقتها بالقارة الأفريقية ووضعت لها قدما ونفوذا سياسيا واقتصاديا، وإدراكها أن الوعود السابقة وارتباك التواصل بين واشنطن ودول القارة أتاح الفرصة للصين وروسيا لبناء علاقات استراتيجية واعدة مع القارة.
ضرورة ملحة
الحاجة إلى العودة السريعة مرة أخرى إلى أفريقيا، هو ما دعا إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن إلى ضرورة عقد القمة الأمريكية الأفريقية الثانية، لاستعادة الوجود الأمريكى من جديد، واستبق ذلك بوعود منح القارة الأفريقية 55 مليار دولار خلال الثلاث سنوات المقبلة، لمواجهة قضايا الصحة والفقر والتعليم وغيره مع وعد بدمج القارة الأفريقية فى الاقتصاد العالمى من خلال مجموعة العشرين. الولايات المتحدة تراهن هذه المرة فى استراتيجيتها نحو أفريقيا على حجم التعاون بين الجانبين، فحجم التجارة البينية بين واشنطن ودول القارة السمراء بلغ فى العام الماضى 64.3 مليار دولار، وهو ما يمثل 2% من حجم التجارة الأمريكية مع دول العالم، وتقدم واشنطن مساعدات بقيمة 13 مليار دولار للقارة السمراء سنويا. يبلغ حجم الاستثمار الأمريكى المباشر فى أفريقيا 43.2 مليار دولار، وساعدت واشنطن فى إبرام 900 اتفاق تجارى لنحو 45 دولة أفريقية بقيمة 50 مليار دولار عام 2019، وتشير التوقعات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تعتمد على نسبة 20% من احتياجاتها النفطية على البترول الأفريقى خلال العشر سنوات المقبلة، لكن ماذا عن الأوضاع فى الجبهات الأخرى فى بكين وموسكو وعلاقاتها مع أفريقيا؟.
الصين منافس قوي
أما روسيا فقد ترأس الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، أول قمة روسية- أفريقية فى منطقة سوتشى على ضفاف البحر الأسود فى نهاية أكتوبر 2019، وكما يؤكد مراقبون سياسيون، فإنه كان من الواضح أن موسكو تسعى من خلالها لبسط نفوذها فى قارة غابت عنها عدة عقود، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، صاحب العلاقات الوثيقة مع العديد من دولها من الخمسينيات والستينيات.
أعلن بوتين مشروعات استثمارية بمليارات الدولارات فى عدد من الدول الأفريقية، وظهر أنه مهتم بالفعل بمجالات المستقبل هناك مع أنه لم يقم سوى بثلاث زيارات لجنوب القارة طوال عشرين سنة من حكمه.
لم تتوقف وعود بوتين عند حدود الاستثمارات المالية، بل تجاوزها إلى التعاون الدفاعى العسكرى والأمنى، والأول يهم غالبية، إن لم يكن معظم الدول السمراء، انطلاقا من أن جيوش بعضها فى طور التكوين، والبعض الآخر قد تهالكت أسلحته والكثير منها روسى ويعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، والثانى موصول بمحاربة الإرهاب، لا سيما أن القارة الأفريقية أصبحت منطقة جاذبة لجماعات وتنظيمات العنف المسلح، خاصة تنظيمى داعش والقاعدة.
القمة الروسية الأفريقية كانت تستهدف دفع الأفارقة بعيدا عن رغبات واشنطن، وربما أيضا بعيدا عن الحليف الصينى وتطلعاته، حيث تبدو موسكو قادرة على تزويد الأفارقة بالأسلحة المتقدمة، ورغم وجود علاقات سياسية قوية بين روسيا ودول أفريقية، فإن حجم التبادل التجارى ما زال دون المستوى المطلوب ولا يناسب مستوى الشراكة والعلاقات التاريخية، فقد بلغ حجم التبادل التجارى بين الدول الأفريقية والولايات المتحدة 61 مليار دولار فقط.
هذه هى صورة أو خارطة التحالفات والاستراتيجيات الأفريقية مع الأقطاب الكبرى الثلاثة، وهو ما يعنى أنها قد تكون فرصة لإدارة بايدن، لإثبات أن أفريقيا هى أكثر من ساحة معركة فى تنافسها الاقتصادى والعسكرى مع بكين وموسكو.
يقول المحلل السياسى والأستاذ المشارك فى العلوم السياسية فى جامعة جوبا بجنوب السودان، إبراهام كول نيون، فى تحليل نشرته مجلة «جلوبال نيوز» الكندية: «أعتقد أن الولايات المتحدة لا تزال ينظر إليها على أنها قوة عظمى من المنظور الأفريقى، لكن معظم القادة الأفارقة لا يريدون مواءمة تعزيزها للديمقراطية. إنهم بحاجة إلى دعم أمريكا ولكن ليس دعم النظام الأمريكى».
ما قاله كول نيون سبقه إليه الرئيس الأسبق بارك أوباما فى القمة الأولى عام 2014، وقالها بشكل صريح بأن «مستقبل أفريقيا بين يدى الأفارقة»، مؤكدا فى خطابه أن «ملامح القرن الحالى ستتشكل ليس فقط فى عواصم الغرب بل أيضا فى أفريقيا»، مضيفا أن «الغرب تعامل مع أفريقيا على أنها مصدر أساسى للمواد الأولية لصناعته، لكنه ليس مسؤولا عن انهيار اقتصادات القارة أو تجنيد الأطفال فى حروبها»، ولأنه يعلم أن روسيا والصين كسبتا ولاء الحكومات الأفريقية، لأنهما لا يطرحان مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان كشرط لتعزيز علاقاتهما بدول القارة، أكد أوباما فى خطابه أن «الديمقراطية ليست هى الانتخابات فحسب، بل هى كيف يعيش الناس».
قبل انقضاء فترة ولايته الثانية، دعا أوباما زعماء القارة إلى القمة الأمريكية الأفريقية الأولى، التى انعقدت فى واشنطن عام 2014، وتعهد خلالها بتخصيص 37 مليار دولار فى هيئة استثمارات وقروض، لدعم مجال قدرات الطاقة الكهربائية، التى لا تزال تنقصها الإمدادات فى القارة، وتمويل قطاعى الصحة والأدوية.
يبدو أن تلك الوعود لم يتم تنفيذها ولم يحدث التواصل بالصورة المطلوبة خلال السنوات الـ8 الماضية، ولذلك وقبل انعقاد القمة بأشهر قليلة، قام وزير الخارجية أنتونى بلينكن بجولة أفريقية فى أغسطس الماضى، كشف النقاب خلالها عن السياسة الأمريكية الجديدة لأفريقيا، صدرت فى وثيقة عنوانها «استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء» أعلنت عن أهدافها بالقارة السمراء، من خلال دعم المجتمعات المفتوحة وتوزيع مكتسبات الديمقراطية والأمن، ودعم التعافى من الوباء والفرص الاقتصادية، وإتاحة الفرص الاقتصادية، ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة.
التمدد الروسى الصينى فى القارة السمراء شكل هاجسا لدى صناع السياسة الأمريكية، وبدأت دوائر السياسة فى طرح استراتيجيات لدحر هذا التمدد، منها العودة إلى سياسة احتواء حكومات القارة السمراء.
دور مصرى مهم
مراقبون ومحللون سياسيون يجمعون على أن القمة الأمريكية -الأفريقية هذه المرة تبدو فيها دول أفريقيا بصورة مغايرة إلى حد كبير عن قمة 2014، فالنزوع إلى الاستقلال والحياد السياسى وبناء العلاقات السياسية والاستراتيجية على قاعدة المصالح الوطنية والمشتركة، بما يحقق ويلبى طموح القارة السمراء، يبدو واضحا فى لغة الخطاب السياسى الأفريقى.
ففى الأزمة الأوكرانية الروسية الحالية، رفضت دول أفريقيا الانحياز لأى طرف فى الأزمة، واختار عدد كبير من دول القارة الحياد وعدم التصويت ضد روسيا فى المحافل الدولية فيما يخص الأزمة الأوكرانية، وهو ما أشعر الإدارة الأمريكية بخيبة ما، لذلك تحوم تساؤلات كثيرة حول مستقبل العلاقات الأمريكية الأفريقية فى ظل المتغيرات الجديدة والنزوع الأفريقى الجديد، الذى بدت مظاهره مع عودة مصر إلى مكانتها الطبيعية فى القارة السمراء، فمنذ 2014 ومصر تولى القارة الأفريقية اهتماما خاصا فى سياساتها الخارجية، حيث سعت القيادة السياسية المصرية، عقب ثورة 30 يونيو، إلى استعادة الدور المصرى فى القارة السمراء، وتجلى ذلك فى زيارات تعدت الثلاثين زيارة لدول أفريقيا، وعقد لقاءات تجاوزت الـ150 لقاء مع قادة ومسؤولى أفريقيا، ونتج عن ذلك وانطلاقا من الارتباط التاريخى، وما يربط مصر بأفريقيا من وحدة الهدف فى الماضى ومقاومة الاستعمار والتحرر الوطنى، إلى عودة مصر لدورها القيادى والريادى فى إقليمها الأفريقى الطبيعى، وأصبحت مصر، عبر قائدها الرئيس عبدالفتاح السيسى، المنصة المعبرة أمام كل الفعاليات الدولية واللقاءات بين الدول الكبرى وأفريقيا، عن طموحات وآمال القارة السمراء والقضايا والصعوبات والتحديات التى تواجه دولها، خاصة قضايا الإرهاب والفقر والتصحر والرعاية الصحية والأمن الغذائى وضمان حياة ومستقبل أفضل لأبناء القارة، اعتمادا على الشراكات والمصالح الاستراتيجية المشتركة بين دول القارة والعالم الخارجى،
فالسياسة المصرية استطاعت «إيقاظ الروح الأفريقية» التى تنفض عن نفسها دور «الفريسة»، انتظارا للصياد الذى سيفوز فى النهاية فى صراعه مع باقى الصيادين الكبار، والتأكيد الدائم منذ القمة الأفريقية الأمريكية الأولى فى عام 2014 على أن أفريقيا لها طموحات كبيرة فى النهوض والتنمية المستقلة، ومواجهة تحديات القارة بإرادة أبنائها، وإقامة علاقات متوازنة مع المجتمع الدولى والقوى السياسية والاقتصادية الكبرى فيه على أساس المصالح المشتركة بين الجانبين.
من هنا سوف يأتى تركيز الرئيس السيسى، فى كلمته خلال أعمال القمة، على الموضوعات التى تهم الدول الأفريقية فى ظل التحديات العالمية القائمة، وتعزيز الشراكة الأفريقية الأمريكية لمواجهة أزمة الأمن الغذائى، وتيسير اندماج الدول الأفريقية فى الاقتصاد العالمى، لاستفادتها مما يوفره من فرص ومزايا فى تحقيق النمو الاقتصادى، ونقل التكنولوجيا ودفع حركة الاستثمار الأجنبى.