ماذا كان يميز الشيخ سيد درويش كملحن عن غيره من الذين سبقوه؟..وكيف تأثر به الذين عاصروه ؟.. وكيف تكون حالته حين يضع ألحانه؟..كانت هذه الأسئلة وغيرها هى ختام مقال الشاعر بيرم التونسى بعنوان «سيد درويش» والذى نشره بجريدة «الزمان التونسية» التى أسسها بيرم وترأس تحريرها، أثناء وجوده فى تونس لفترة قضاها فيها منفيا خلال سنوات نفيه وتشريده من مصر إلى فرنسا عام 1920 بقرار من الملك فؤاد، واستمرت أكثر من 18 عاما، وكتب بيرم مقاله بعد أن فوجئ بعدم وجود أى أسطوانات لسيد درويش فى تونس وحين سأل تجار الفونوغرافات عن السبب أجابوه «لأنها ما تتعداش» أى «لا تروج».. «راجع، ذات يوم، 2 و3 مايو 2023».
يقول بيرم فى الجزء الأخير من مقاله: «الشيخ سيد كملحن امتاز على المتقدمين بإرسال الكلام المنسجم، كما لا يردده ولا يقطعه بالآهات السخيفة، والحشو المرذول، وهو الملحن الشرقى الوحيد الذى يفرغ على الكلام ما يناسبه من التلحين، فإذا سمعت ألحانه موسيقى، مجردة من الكلام، أدركت ما فيها من طرب، وحزن، وثورة، وذل، وضحك، وتهكم، ويودع اللحن روح الشخص الذى يعبر اللحن عنه كما يسمع من لحن «الحشاشين» و«السقالين» و«المراكبة» وسائر ألحانه التى غناها الكبير والصغير فى الشرق العربى».
يضيف بيرم: «وقد أصبحت الفئة القليلة التى يخصها الشيخ سيد بصداقته ويختار لمجلسه، أصبحت وكل واحد منها لحن يشار إليه بالبنان اليوم، كالأساتذة زكريا أحمد ومحمد القصبجى، وإبراهيم فوزى وغيرهم، ومحمد عبدالوهاب يفتخر بأنه يقتفى أثر أستاذه الشيخ ويتتبع خطواته، ويعترف هو وأقرانه من الملحنين أنهم لا يزالون فى ساحل هذه المحيط العظيم، وقلت إننى كنت أمام رجل اتهمه بالسرقة وهو يقيم أدلته التى بررت عمله فى بساطة، ولكنه وقد انصرف عن الريحانى وغيره، وبدأ يلحن لنفسه، قد رأى نفسه فى ميدانه الذى يحلو له الركوض فيه، والذى يسمح له بإظهار قوته الجبارة».
يعطى بيرم مثلا بالقوة الموسيقية الجبارة للشيخ سيد قائلا: «كانت الرواية التى افتتح بها فرقته «شهر زاد» وكان على أن أنظم له خمسة عشر لحنا فى مواقفه المختلفة، ولا يتصور غيرى وغيره أننا اسكندريان لكل منا المشاكسة والعناد وما يخيف الآخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد رد على أبلغ رد فى ألحانه لهذه الراوية، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم، ويعلم الله أن الوقت الذى قضيته فى العمل معه كان عبارة عن جِلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصى لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد فى عدة أيام، بينما الزجل العادى لايكلفنى إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلنى بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له فى أسعد ساعات صفائه، ويعود عليه بالتنقيح والتغيير، ثم يعلنه ويسجله بالنوتة».
يؤكد بيرم: «كانت روايته «شهر زاد» مثلا بديعا للموسيقى الكلاسيكية التى لم تطرق الأذن الشرقية، ولذلك لم تلتقطها اسماع العامة فى الشوارع وتغنيها كغيرها من الألحان الخفيفة الشائعة، إلا أنها تغنى فى الحفلات الراقية بواسطة الهواة الذين يجيدونها، فمنها اللحن الوطنى الذى ينشده جندى مصرى أمام الملكة حين سألته من أى بلاد هو؟: «أنا مصرى كريم العنصرين/ بنيت المجد بنيت الأهرامين/ جدودى أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل فى الوادى الخصيب/ لهم فى الدنيا آلاف السنين/ ويفنى الكون وهم موجودين/ وأقول لك عللى خلانى / أفوت أهلى وأوطانى / حبيب أوهبت له روحى / لغيره لا أميل تاني/».
يكشف بيرم : «فى هذه الرواية «شهر زاد» لحن وقف يعالجه مدة طويلة حتى سلسل له، واستطاع نقله إلى عالم النغمات، وهو زفاف الجندى إلى حبيبته فى حلفة كبرى وقد ضاق المرحوم «الشيخ سيد» به ذرعا، وثبت لديه أننى أتعمد معاكسته، ولكنه كان أشد مراسا وأقوى شكيمة، وكنت أعتقد أننى قدمت له من هذا اللحن قطعة من الفولاذ المسبوك ولكنه نفخ عليها فإذا بها قد طارت شعاعا إلى عليين.
تغنى المجموعة: زفوا العروسة للعريس الجميل/ زينة العرسان/ البدر يتمتختر وجنبه تميل/ وردة البستان».
ترد إحدى الجوارى: يارب تجعل فى ليالى السعود/ طالع النجمين/ واجعل سهامك فى عيونك الحسود/ واحرس الاثنين».
العريس للعروسة: الليلة اتهنى وأشوف فى المنام/ صدك الهزاز/ وافرح واسقينى كاسات المدام/ خدك الغماز».
ترد العروسة: أنت ظهر نجم سعودك/ وانا الزمان عوض صبرى/ الليلة حلوة بوجودك/ ما تنتكبشى من عمرى».