أمضى أحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك فاروق، السهرة يوم الأحد 17 فبراير 1946، مع بعض أصدقائه بمنزل الكاتب الصحفى محمد التابعى، وغنت أم كلثوم سلوا قلبى، وحمل حسنين مقعدا صغيرا جلس عليه بين يديها، ينصت لها بكل جوارحه، وامتدت السهرة حتى مطلع فجر الاثنين، حسبما يذكر «التابعى» فى كتابه «من أسرار الساسة والسياسة.. أحمد حسنين باشا حياته الخاصة والعامة».
فى الثلاثاء 19 فبراير 1948، صدمت سيارة لورى بريطانية سيارته فوق كوبرى قصر النيل أثناء عودته لداره بالدقى، وفى مستشفى الأنجلو أمريكان، أسلم الروح، لتنتهى رحلة أحد أخطر الشخصيات السياسية التى عملت بجوار الملك فؤاد، ثم أصبح أستاذا للملك فاروق، وهناك آراء تتهمه بمسؤولية إفساده، غير أن هناك آراء تراه من زاوية أخرى، كرأى أم كلثوم فى مقال نادر بعنوان ى «بعض الذين غنيت لهم.. أحمد حسنين باشا»، ووقعت عليه باسم الآنسة أم كلثوم، بمجلة آخر ساعة، عدد 709، 26 مايو، مثل هذا اليوم، 1948، فماذا جاء فيه؟
تستهل مقالها بأنها لن تتحدث عن أحمد حسنين السياسى أو الوطنى ولا استكشافاته وكتبه، التى مزجت العلم بالسياسة بالوطنية بالمغامرة الرياضية، وإنما تتحدث عنه كفنان، وتذكر: «هذا الرجل كان فنانا بكل ما فى هذه الكلمة من معنى، بل أذهب إلى القول إن سياسته وعمله ورياضته واستكشافاته تأثرت بالفنان فيه أكثر مما تأثرت بأى شىء آخر، كان لا يستهويه التصفيق الرخيص، وإنما ينال إعجاب الجمهور الذى يفهم الفن ويقدر الفنان، ولهذا كان بعض الناس لا يفهمون حركاته السياسية يوم حدوثها، مثلهم كمثل الذين لا يطربون للأغنية إلا بعد أن يسمعوها مرتين».
كانت حياة حسنين قطعة فنية وكانت رواية هو بطلها، يراه الناس على المسرح، وأذكر دائما كلمة كان يرددها بأنه ذهب وهو فى إنجلترا إلى منجم مشهور فقال له: أراك أشبه بممثل، وأراك دائما فوق المسرح، وأشهدك تتنقل من أدوار صغيرة إلى أدوار كبيرة حتى تصل إلى الدور الأول، وفجأة والأنوار مسلطة عليك والجمهور يصفق لك ويهتف باسمك يسدل الستار، ويدهش الناس أن تختفى فى أدق موقف فى الرواية، ويخرج الناس من المسرح باكين آسفين، لأن القصة الجميلة لم تطل ولم تنته، ويختار كل واحد منهم الختام الذى كان يحبه لك.
كان «حسنين» يروى هذه القصة لأصدقائه ويقول لهم: «أحس أن حياتى ستنتهى كما قال المنجم الهندى، وهذا من حظى، فخير لى أن يضج المتفرجون من قصر دورى من أن يضجوا لأنه طال أكثر من اللازم»، وتحققت نبوءة المنجم كما تمنى «أحمد حسنين»، ونزل الستار عليه فجأة دون أن ينتظر تصفيق المصفقين وتحية المعجبين، وفى حياته ما فى حياة الفنان من تناقض، هذا المزيج العجيب من العلو والهبوط، بين الأكواخ والقصور، هذا الارتفاع إلى حيث يعيش الملوك، وهذا النزول إلى حيث يعيش أفقر الناس، أشبه بنوتة موسيقية تحوى دورا عجيبا جمع كل المقامات.
كان يستيقظ فى الصباح ويذهب إلى القصر يجتمع بالملوك، ويتحدث إلى الأمراء، ويشترك فى إدارة شؤون الدولة العليا ثم يخرج إلى تل زينهم بالسيدة زينب، حيث محطة الرواد، يجلس مع الأطفال أبناء العمال الفقراء يلاعبهم ويتحدث إليهم، ويبادلهم النكتة كأنهم أولاده، وكأن الجو الفقير جوه، وطريقة الحياة العملية طريقته وبيئته، وكأنه ولد وعاش طوال حياته فى حى من أحياء العمال.
كان يلعب دورا السياسيا ثم يخرج من هناك إلى نادى السلاح ليلعب السيف، ولست أعرف هل كان يستعمل السياسة فى المبارزة، أو كان يجيد طرق المبارزة فى السياسة، ولكن أعرف أنه كان بطلا فى اللعبتين، يضرب فى الصميم، ويضرب ضربة مفاجئة، ويضرب خصمه ليصافحه بعد ذلك، ما رأيته يوما يضرب رجلا وقع على الأرض، ولا يسخر من مضروب أو يهزأ من مهزوم.
كان صوفيا يعرف الله كثيرا، واستطاع إيمانه أن يجعل منه فيلسوفا، وكم كان غريبا أن هذا الرجل الصوفى يرأس جماعة «أنصار التمثيل والسينما»، ويشترك فى حفلاتها وينقد رواياتها، ويتدخل فى بعض الأحيان ليعلم بعض الممثلين والممثلات كيف يقومون بأدوارهم، ويشترك مع نجيب الريحانى فى قراءة روايته قبل عرضها على الجمهور، وهو فوق هذا راوية للشعر وذواقة للغناء، يعرف اللحن المضبوط، وتلتقط أذناه النغمة العرجاء، إذا جلس فى مجلس غناء، شعرت وهو ينظر إلى المطرب كأنه من أفراد الفرقة الموسيقية، يلحظ كل آلة، ويتبع كل نغمة، وهو أشبه برئيس فرقة موسيقية يديرها دون أن يعرف آلة من آلاتها.
لا أزال أتذكر كلما غنيت قصيدة سلوا قلبى، وأبكى فيه الرجل الفنان، الفنان الذى عالج كل شىء فى حياته برقة الشاعر، وخيال المصور، وبراعة الموسيقى، وسحر المطرب، واختفى فجأة كلحن لم يتم، ومع ذلك بدا أجمل من لحن كامل.