فى أواخر العام الجارى يستقبل 1507 مجالس محلية على مستوى القرى والمراكز والأحياء والمدن، 47 ألفا و382 عضوا لتمثيل المجالس الشعبية المحلية فى انتخابات هى الأكبر على مستوى أى تمثيل نيابي، وتكتسب انتخابات المحليات المقبلة أهمية خاصة باعتبارها الأولى عقب ثورتى 25 يناير و30 يونيو وبعد أن غابت المجالس الشعبية المحلية عن أداء دورها فى الرقابة على الأجهزة التنفيذية أكثر من خمس سنوات كانت كفيلة لتضخم نسب الفساد داخل دواوين الأحياء والمراكز والمدن والمحافظات.
القبض على مدير أمن ديوان محافظة القاهرة مند أيام متلبسا برشوة داخل مكتبه وإحالته للتحقيق بمعرفة النيابة العامة، لم تكن هى الحالة الوحيدة لموظفي دولة استغلوا مناصبهم لتحقيق ثروات غير مشروعة، فالأرقام مؤشر بالغ الدلالة على ارتفاع معدلات الفساد نتيجة غياب الرقابة الشعبية على الأجهزة التنفيذية وعدم خضوعها لإشراف المحليات، حيث كشف تقرير للنيابة الإدارية صدر عام 2014، عن نتئج خطيرة جدا بعد أن وصلت التعديات على الأراضى الزراعية إلى أكثر من 3 ألاف حالة و4695 قضايا مخالفات بناء خلال عامين.
وأرجع التقرير سبب ارتفاع نسب الفساد فى المحليات إلى وجود ثغرات فى القانون الحالى للإدارة المحلية، ولكن الأهم هو غياب سلطة المجالس الشعبية المحلية فى أداء دورها بالرقابة الفعالة على أداء الأجهزة التنفيدية المحلية" وحدات ـ أحياء ـ محافظات".
تقرير النيابة الإدارية نقطة فى بحر من فساد المحليات، ولمن لايعرف فإن هناك أكثر من 5 مليون مبنى سكنى فى طول مصر وعرضها مقامة بدوان تراخيص ومهددة بالإنهيار فوق رؤوس قاطنيها، منهم 318 الف مبنى صدر له قرارات إزالة من الأحياء ولم تنفد لغياب قوة القانون أبرزها فى مناطق البساتين والخليفة والدرب الأحمر والجمالية والسيدة زينب والمعصرة وحلوان، وفق ما حددته إحصائية الهيئة العامة لتعاونيات البناء والإسكان، أضف إلى ذلك قرابة 52 ألف مخالفة فى الإدارات الهندسية بالوحدات والمراكز والأحياء والمدن والمحافظات، كما أحيل إكثر من 32 ألف مهندس بالإدارات الهندسية والإسكان والمرافق والإشغالات فى الأحياء والمحافظات خلال أخر10 سنوات للتحقيق بمعرفة النيابة العامة والإدارية بعد أن تمكن أصحابها من تكوين ثروات طائلة بلغت قرابة 3 مليارات وفق تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات، والذى كشف أيضا أن ما تم إهداره نتيجة الفساد فى المحليات خلال عشر سنوات بلغ قرابة 4 مليارات جنيه، واحتلت محافظة المنيا نصيب الأسد فى عام 2015 بإهدار مبالغ وصلت تقديراتها إلى 220 مليون جنيه وبلغ إجمالى المخالفات التى تمثلت فى شراء سيارات ومعدات نظافة وأهمدة إنارة قرابة 27 مليون جنيه، بالإضافة لمنح حقوق امتياز لشركات إعلانات دون وجه حق، وبتفتيش الجهاز المركزى للمحاسبات على الأعمال المالية لحساب صندوق الخدمات والتنمية المحلية بالمحافظة اكتشفت مخالفات بلغت 7 ملايين جنيه ومشروع المحاجر 30 مليون جنيه، و78 مليونا مخالفات فى الأعمال المالية لحساب صندوق تمويل مشروعات اللإسكان الاقتصاد.
ولخص القانونيين والخبراء ارتفاع نسب الفساد فى المحليات سواء فى عهد الحزب الوطنى والذى كان الفساد فيه وصل إلى أعلى معدلات أو فى بعض الفترات اللاحقة إلى عدة أسباب، أبرزها وجود عدة ثغرات فى قانون الإدارة المحلية القديم يجب أن يبحثها بدقة نواب الشعب، وهى انحصار اختصاصات المجالس المحلية فقط فى الموافقة وإصدار التوصيات، بالإضافة إلى "المركزية المجحفة" فى المحليات باحتفاظ بعض الوزارات بحق الإشراف على الاختصاصات المفوضة للمحليات وضعف الرقابة الشعبية والتى كانت تعطى للمجلس الشعبى المحلى للحى أوالمحافظة سلطة سحب الثقة من رئيس الحى أو المحافظ وعزله من منصبه، ومنذ أن تم إلغاء حق الاستجواب للمحافظ وتحويل الوزارة من الحكم المحلى إلى الإدارة المحلية، تحولت السلطة لتصبح فى يد الأجهزة النتفيدية وأصبح من حق المحافظ الاعتراض على قرار المجالس الشعبية وسلطة حلها، يضاف إلى ذلك غياب الإشراف القضائى فى السابق على انتخابات المحليات والتى أعطت الفرصة للحزب الوطنى المنحل مع اختفاء القوى السياسية الأخرى فى السيطرة على المحليات على مستوى جميع المجالس الشعبية المحلية، وبالتالى غابت الرقابة على المجالس الشعبية ومواجهة المحافظين ورؤساء الأحياء من خلال الأدوات الرقابية المتاحة نتيجة سيطرة أعضاء الحزب الحاكم عليها، وبالتالى ارتفعت نسب قضايا الفساد والرشاوى لمعدلات غير مسبوقة ، أضف إلى ذلك تدنى أجور العاملين بالأحياء والمحافظات والتى كانت تصل إلى 500 جنيه فى بعض الإدارات، وهو ما أدى لانتشار ظاهرة " الدرج المفتوح" وأصبحت الرشوة مباحة فى جميع الوحدات والأحياء والمحافظات.
منذ أعوام حدثت شروخ كبيرة فى جدران إحدى المدارس، فأجرى المذيع مفيد فوزى حوارا مع رئيس هيئة الأبنية التعليمية، وسأله عن تخصصه، فأجاب الأخير أن عمله ودراسته كانت بعيدة تماما عن الهندسة أو التعليم، وسأله المذيع أيضا لماذا قبلت عمل لا تفهم فيه ولم يكن تخصصك، فأجابه "إسأل اللى عينونى"، منطق "إسأل اللى عينونى" كان سائدا فى مصر لسنوات طويلة وكان الإعتماد على أهل الثقة أكثر من أهل الخبرة، هو أحد العوامل التى أثرت على أداء المحليات وزيادة معدلات الفساد، نتيجة تعيين عدد من رؤساء الأحياء والمدن والمحافظات من تخصصات ليس لها علاقة أو خبرة كافية بالعمل فى المحليات، والدليل على ذلك إحالة أكثر من 60 رئيس حى ومركز ومدينة للتحقيق فى الفترة من 2007 حتى عام 2012 فى قضايا فساد وإهمال وفق تقرير لمنظمة النزاهة والشفافية.
القضاء على الفساد فى المحليات أولى خطواته، بدأت بالمسودة النهائية لقانون الإدارة المحلية والتى وافق عليها مجلس الوزراء منذ أيام، ووضعت بعض المواد التى تعيد لانتخابات المحليات أهميتها، بعد أن أعاد رسم خريطة العضوية فى المجالس الشعبية والتى ستجعل منها أداة قوية فى دحر الفساد المتغلغل فى الأجهزة التنفيدية بالأحياء والمراكز والمدن والمحافظات، فنسبة 50% على الأقل من العمال والفلاحين تمنح السواد الأعظم من فئات الشعب المصرى تمثيل دوائرهم والمشاركة فى انتخابات المجالس المحلية للأحياء والمحافظات، كما نص القانون على نسبة 25% من المجالس المحلية بالنظام الفردى، وهو ما يعطى حق الترشح للمواطنين خارج عباءة الأحزاب والائتلافات التى تسعى للهيمنة على المحليات، كما أقر قانون الإدارة المحلية على أن تكون نسبة 75% من المجالس المحلية بنظام القوائم المغلقة المطلقة، وبالتالى يعطى القانون الفرصة للأحزاب والائتلافات حق الترشح بعدد أكبر من أعضائها فى الانتخابات وفى المقابل ستمنع سيطرة حزب واحد على المحليات فى مصر بنسبة 100% كما كان متبعا فى عهد الحزب الوطنى المنحل الذى سيطر على كافة المجالس المحلية وبسببه ارتفعت نسب الفساد فى المحليات نتيجة عدم الرقابة من أعضاء المجالس المحلية على الأجهزة التنفيذية فى الأحياء والمدن والمحافظات من منطلق المقولة الشهيرة " حكومة الحزب وحزب الحكومة" واختفى أى شكل رقابى على المحليات.
والقانون أيضا أعطى المرأة والشباب والأقباط وذوى الإحتياجات الخاصة ، نسب تمثيل عادلة فى المحليات وأصبح وجودهم وجوبيا بقوة القانون، بعد أن أقر نسبة الثلث للشباب والثلث للمرأة فى ترشيحات القوائم للأحزاب والائتلافات ومقعد لمسيحى وأخر لذوى الإحتياجات الخاصة، وهو أيضا ما لم يكن موجودا فى الماضى بسبب سيطرة القبليات والعصبيات على المجالس المحلية فى كافة دوائر مصر.
ولكن يبقى السؤال الأهم هل تستطيع المجالس المحلية المقبلة تفعيل دورها الرقابى على الأجهزة التنفيذية والقضاء على الفساد من أوسع أبوابه، والإجابة تتلخص فى ضرورة تعديل قوانين الإدارة المحلية والتى تمنح المحافظ حق حل المجلس المحلى وعدم الإعتداد بقراراته، بالإضافة إلى إلزام رؤساء الأحياء والمراكز والمدن بضرورة تنفيد قرارات المجالس المحلية ومنح أدوات رقابية أوسع لأعضاء المجالس المحلية من خلال "الإستجواب وسحب الثقة والعزل من المنصب والضبطية القضائية "، إنها بوابة القضاء على الفساد لو استطعنا إدراك منافده.