كانت الساعة الثامنة والربع صباح 25 يونيو، مثل هذا اليوم، 1906 حين جاء المتهمون فى حادثة دنشواى من السجون إلى المحكمة، وفى منتصف الساعة التاسعة والنصف فتحت الجلسة برئاسة بطرس باشا غالى وزير الحقانية ورئيس المحكمة التى تم تشكيلها على وجه السرعة، حسبما تذكر «مجلة المجلات العربية» فى عددها الخاص والنادر عن هذه الحادثة وصدر فى أول فبراير عام 1908، فى 160 صفحة تحتوى على تفاصيل التفاصيل لهذا الحادث المشئوم فى تاريخ مصر، وعلى غلافها بيت شعر لحافظ إبراهيم يصور فيه أحد المتهمين وهو زهران مخاطبا إبراهيم الهلباوى المدعى العمومى : «أنت جلادنا فلا تنس أنا / قد لبسنا على يديك الحدادا».
كانت حادثة دنشواى يوم 13 يونيو 1906، وحسب عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، فإنها جرت على أثر قيام خمسة من ضباط الاحتلال الإنجليزى بصيد الحمام فى قرية دنشواى بمحافظة المنوفية، وصوب أحد الضابط بندقيته على الحمام فى جرن به قمح مملوك لمحمد عبدالنبى مؤذن القرية، وكان يشتغل به أخوه عبدالنبى، وطلب شيخ طاعن فى السن اسمه حسن على محفوظ من الضابط أن يكف عن إطلاق البندقية وإلا احترق الجرن الذى يقع أمام داره، لكن الضابط لم يعبأ فأخطأ المرمى وأصاب امرأة تدعى أم محمد زوجة عبدالنبى المؤذن، فاشتعل الأهالى غضبا، وتطورت الأحداث فأصيب شيخ الخفر وأصيب الميجور «بين كوفين» بكسر فى ذراعه، وجرح الملازمان «سميث ويك» و«بورثو» جروحا خفيفة، وترك مكان الواقعة «الكابتن بول» وطبيب بيطرى إنجليزى، وأصيب الأول إصابة فى رأسه، وأخذ يعدو ثمانية كيلومترات فى حرارة القيظ، وفور وصوله إلى سوق «سرسنا» سقط من الإعياء ومات متأثرا بضربة شمس.
ثارت ثائرة الاحتلال، وتم القبض على 52 متهما، ويذكر الرافعى، أنه فى 20 يونيو 1906 تألفت محكمة مخصوصة برئاسة بطرس باشا غالى لمحاكمة المتهمين ومعه ثلاثة إنجليز وأحمد فتحى زغلول رئيس محكمة مصر الابتدائية، وأوكلت الحكومة لإبراهيم الهلباوى القيام بوظيفة النائب العمومى فى القضية.
بدأت المحكمة جلساتها يوم 24 يونيو 1906، وكانت فى سرادق منصوب لها بمدينة شبين الكوم، وبمقتضى قبول «الهلباوى» لهذه المهمة «ترافع ضد هؤلاء الفلاحين الحفاة الجائعين، وشنقهم بلسانه» حسب وصف صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، وفى 25 يونيو 1906، وفى الساعة الخامسة والنصف كانت أول مرافعات الهلباوى التى بقى عارها يلاحقه حيا وميتا، واستمرت هذه المرافعات يومين، وتنقلها «مجلة المجلات العربية» حرفيا، وفيما كان يصف فى مرافعاته ضباط الاحتلال الإنجليزى بمكارم الأخلاق، كان يصف أهالى دنشواى بالهمج والتوحش.
بدأ الهلباوى مرافعته مخاطبا هيئة المحكمة، قائلا: «إذا تقدمت إليكم وطلبت رفع كل رحمة من نفوسكم لمعاقبة هؤلاء المتهمين وخصوصا رؤساء العصابة لا أكون مغاليا.. الحادثة الفظيعة التى ارتكبها أهالى دنشواى تفضى إلى سوء الظن العظيم بالمصريين، وتجر على مصر وعلى النظام العام البلاء بل وتضر المصريين أكثر ما تضر الإنجليز».
يضيف: «لا يمكن أن يتصور إنسان أنه يعتدى على ضباط جيش الاحتلال مثل هذا الاعتداء، ولكن من الأسف أن هذه حادثة حصلت من أهالى دنشواى والضباط بالملابس العسكرية، فكأن هؤلاء المتهمين يخالفون ما يتصوره كل إنسان بما ارتكبوه من فعلهم هذا.. الميجور «بين كوفين» الذى لبث فى حرب الترنسفال ثلاثين شهرا ظافرا منصورا وتقلد نياشين الشرف ورتب المجد انهزم أمام العصابة الشريرة، ولم يكن انهزامه خوفا بل باختياره، وقد سلم سلاحه المعادل روحه وأمر الضباط الذين تحت أمره بتسليم السلاح حسما للنزاع، وظنا منه أنه أمام قوم عندهم شعور ومروءة، فإذا هو بين أدنياء النفوس سافلى الأخلاق، قابلوا هذه الأخلاق الكريمة بالعصى والشماريخ، وصاحوا على النساء يرمينهم بالطوب والطين».
يقول: «إن الحادثة حصلت عمدا، فكان القصد منها القتل، وأن حسن محفوظ «الشائب» هو زعيم هذه الحادثة لأنها حصلت على باب داره، وحسن محفوظ وأحمد السيسى ويوسف حسن سليم ومحمد عبدالنبى المؤذن وأحمد عبدالعال محفوظ، والسيد عيسى ومحمد درويش زهران هم السبعة الزعماء للفتنة، ولا بد من تطهير الهيئة الاجتماعية من الأول لأنه بلغ السبعين عاما، ولكن هذه المدة لم تظهر أخلاقه أو تهذبها فعكر صفو الأمة كلها، وأساء ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى عليهم خمسة وعشرون عاما، ونحن معهم فى إخلاص واستقامة وأمانة».