استفزنى بيان لوكيل وزارة الأوقاف الشيخ جابر طايع، رئيس القطاع الدينى، حول إصرار الوزارة ومضيها قدماً فى تعميم الخطبة المكتوبة، وأنه سيعقد مزيدًا من الاجتماعات مع القيادات والأئمة لشرح آليات تطبيقها عبر الحوار والإقناع، بالرغم من رفض هيئة كبار العلماء فى الأزهر الشريف لها.
وشدد وكيل وزارة الأوقاف، الذى لا ينطق إلا بتعليمات الوزير، على ضرورة الالتزام بالخطبة، كعمل تنظيمى للقضاء على الفوضى فى الخطاب الدينى، فى إطار استراتيجية الأوقاف الشاملة لنشر الفكر الإسلامى المستنير كمشروع فكرى وتنويرى كبير.
فحوى البيان تجعل المرء يعتقد أننا دولة ليس بها فكر مستنير، متجاهلاً إعلان هيئة كبار العلماء رفضها للخطبة المكتوبة، مؤكدة أنه اضطلاعاً بدور الأزهر الذى حدَّده له الدستور المصرى بأنه المسئول عن الدعوة الإسلامية، وقرَّرت الهيئة، بالإجماع، رفض الخطبة المكتوبة، مُعتبرةً هذه الخطوة تجميداً للخطاب الدينى، فهل لدينا فى مصر مصدران متضادان للدعوة الإسلامية المستنيرة.
كمصرى أثق فى الأزهر ثقة عمياء، وأرى أن ما يقوله علماؤه ترجمة لما يعلمه العالم أجمع بأن الأزهر منارة العلم الشرعى فى الأرض، على مر العصور منذ نشأته، فهل يرى المسئولون فى الأوقاف هذه الصورة الذهنية العتيقة عن الأزهر ما يجعلنا نقتنع بوجهة نظر الوزير محمد مختار جمعة وقبول الخطبة المكتوبة.
عناد وزير الأوقاف وتمسكه بالخطبة المكتوبة، بالرغم من رفض العلماء لها، يجعلنى أشك فى أن الوزير لا يريد أن يترك أئمة الأوقاف يتحدثون للمصلين دون أن يملى عليهم ما يقولونه، وكأنه يعلم شيئاً لا يريدنا أن نعرفه، أليس هؤلاء الذين يخطبون فى الناس منذ عشرات السنين، وهل يرى الوزير أن الخطبة المكتوبة أفضل من تطوير مهارات الأئمة.
بيان هيئة كبار العلماء أكد أن أئمة الأوقاف يحتاجون إلى تدريبٍ جادٍ وتثقيفٍ وتزويدهم بالكتب والمكتبات؛ حتى يستطيعوا مواجهة الأفكار المتطرفة والشاذَّة بالعلم والفكر الصحيح، وحتى لا يتَّكئ الخطيب على الورقة المكتوبة وحدها؛ ما سيُؤدِّى بعد فترةٍ ليست كبيرة إلى تسطيح فكرِه وعدم قدرته على مناقشة الأفكار المنحرفة والجماعات الضالة التى تتَّخذ الدِّين سِتارًا لها، وتستخدم من بين أساليبها تحريف بعض آيات القُرآن الكريم والأحاديث النبوية عن مواضعها، والتلبيس بها على أفهام عوامِّ المسلمين؛ مَّا قد يُصعِّب على الإمام مُناقشة هذه الأفكار وتفنيدها والرد عليها وتحذير الناس منها، فهل هذا ما يريده الوزير، فإن كان هذا ما يريده فلماذا يزيد الحمل على الإمام، ولماذا لا تطبع الوزارة الخطبة وتوزعها على المصلين فى المسجد تسهيلاً على الإمام.
ما يعقد الصورة لدىّ حول مستقبل الأئمة فى مصر مشهد أتخيله قد يتكرر عشرات المرات، عندما يسمع المسلم منا حديثاً لا يثق فى كونه صحيحاً ورد على لسان النبى، صلى الله عليه وسلم، فلا يجد أمامه سوى إمام المسجد فيسأله عن صحة هذا الحديث، فيرد عليه قائلا، "لم نأخذ هذا الحديث فى الخطبة المكتوبة.. أمهلنى حتى أسأل الوزير"، إذا كان الوزير يريد إطلاق برنامج "الإمام الموحد" فليوزع شاشات عرض عملاقة على منابر المساجد لتبث عبر الأثير خطبة يلقيها هو أو من يوكل إليه إعداد ما سيملى على الأئمة.
ما أعتقده عن تجديد الخطاب الدينى ما ذكره بالضبط بيان أكثر الناس علماً فى مصر "هيئة كبار العلماء" وأن تحقيق هذا الهدف يوجب مزيداً من التدريب للخطيب والداعية وإصقاله بمهارات البحث العلمى والدعوة والابتكار، حتى يستطيع الحديث بما يُناسب بيئته، والتغيرات المتطورة كل يوم،وحتى يجتمع الناس من حوله منصتين إليه.
الأزهر أعلى هيئة دينية فى مصر، لا شك أن هذا هو اعتقاد المسلمين وغيرهم فى أرض الكنانة، فإن رفض شيئاً فإنه يتحدث بلساننا جميعا، ولا بد للأوقاف من الالتزام به، وهذا ما قاله الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر الشريف، عندما أعلن أن هيئة كبار العلماء أنهت حالة الجدل حول الخطبة المكتوبة، وحسمت أمراً شغل الرأى العام فى الفترة الماضية، مطالباً قيادات مجمع البحوث والأوقاف بتنفيذ توجيهات الهيئة بشأن الاهتمام بمكتبات الدعاة لتشمل أمهات كتب التراث فى فروعه المختلفة، إضافة إلى الكتب التى تعالج المشكلات المعاصرة معالجة منضبطة ومتخصصة، والتدريب على استخدام الوسائل الحديثة ليكون الداعية مواكباً لعصره مدركاً لمشكلات مجتمعه وقادراً على علاجها.
وشدد وكيل الأزهر على أنه لن يتمكن الداعية من أداء رسالته على الوجه المطلوب دون الاعتناء به معنوياً وصحياً واجتماعياً، ليتفرغ تفرغاً تاماً لرسالته فى الهداية والتنوير والتحصين من شرور المتطفلين على الساحة الدعوية، والمستغلين للدين وشريعته لخدمة أغراضهم ونزاعاتهم السياسية، وتبرير أفعالهم الإرهابية، وهى الرسالة الملقاة على وعاظ الأزهر وإخوانهم أئمة الأوقاف، فإن كانت الأوقاف لا تستطيع القيام بهذا الدور فلماذا لا تتركه للأزهر الشريف.
تجربة الأزهر رائدة فى هذا المجال، حيث يعمل على تعميق الثقافة الفكرية الإسلامية لدى وعَّاظه، بعقد دورات دورية مستمرة ومكثفة فى كافة المجالات الشرعية، وإمدادهم بمجموعات كبيرة من الكتب التى تعمق ثقافتهم وتوسع مداركهم.
ليس التدريب فحسب ما حقق طفرة الأزهر، بل إن إطلاق مركز الرصد العالمى بالأزهر الشريف، وجعل تبعيته العلمية لهيئة كبار العلماء، كان دعماً له وتفعيلاً لدوره فى رصد وتفنيد كلِّ ما يتعلق بالأفكار المغلوطة والفتاوى الشاذة بكافة اللغات الحيَّة فى العالم، وإعداد ردود شرعية مناسبة لها باللغات التى كتبت ونُشِرت بها تلك الأفكار.
هذا كله يجعلنا نتوجه برسالة فى آذان المسئولين بوزارة الأوقاف، هامسين ناصحين مشفقين عليهم مما يحملونه على ظهورهم من حمل تقديم الرسالة الدعوية المتزنة والصحيحة.. استقيموا يرحمكم الله.