يستعد مجمع التحرير للرحيل بعد أكثر من ست عقود خدمة تاركًا وراءه آلاف الذكريات التى لن تُمحى من ذاكرة ملايين المصريين على كافة مستوياتهم الغنى والفقير، الشريف والمتهم.. وبما أن الدولة قررت إنهاء مسيرة المبنى الإدارى الأكبر فى قارة أفريقيا والوطن العربى، أجرت "انفراد" جولة فى أنحاء ذلك المبنى العتيق للتعرف على القصص والحكايات التاريخية للعاملين فى هذا المكان.
فى هذا الملف حصلنا على شهادة جمعة محمد أقدم العاملين فى المجمع والذى تمتد حكايته مع المبنى العتيق إلى نصف قرن من الزمان، شاهد فيها عهود مختلف بدءً من فترة حكم جمال عبد الناصر، وصولا بالرئيس عبد الفتاح السيسى، وأيضًا تناولتنا حكاية مصاعد المجمع الذى شهدت العديد من القصص المثيرة منها مولد توأم بداخلها، ليطلق الأب اسم مسئول المصعد على احد الطفلين.
واستعرض الملف شهادة العاملين بالمجمع على فترة ثورة 25 يناير، وما تلاها من أحداث، وكذلك آلية العمل فى أكبر مبنى إدارى فى أفريقيا، وأبرز الحوادث التى مرت عليها، وأيضًا تم تناول تاريخ عدد من الطوابق التى لها ذكريات مميزة.
فور دخولك للمجمع ستجد شخصًا يعلمه الجميع، بمجرد السؤال عن اسمه، العشرات يقودنك إلى موقعه الذى لم يُفارقه منذ 50 عاما، هنا يجلس عم جمعة محمد أقدم عامل وفرد أمن فى مجمع التحرير، قصته مع المبنى العتيق بدأت فى عام 1966، لم يكن على علم وقتها بأنه سيُصبح جزءً من هذا المكان وأحد معالمه بعد نصف قرن من الزمن.
اعتاد عم جمعة صاحب الـ "70 عامًا" على الاستيقاظ يوميًا فى السابعة صباحًا حتى فى يوم الأجازة بعدها يتوجه للمجمع، ويكون فى محل عمله فى تمام الساعة الثامنة صباحًا خاصة أنه يسكن فى الزواية، ويظل فى موقعه لا يغادره الا فى العاشرة مساءً رغم انتهاء مواعيد العمل الرسمية لكن فى اعتقاده هناك شىء آخر يربطه بهذا المكان لا يعرف سببه لكنه أكبر بكل تاكيد من لغة الحضور والانصراف الروتينية المملة.
ويستعد أقدم العاملين فى المجمع للرحيل مثل كل شىء، حالمًا بمستقبل أفضل لهذا المكان الذى يُطلق عليه دائمًا هرم القاهرة الرابع، متمنيًا الحفاظ عليه بشكل يليق بتاريخه الطويل لاسيما أنه من التراث المصرى، والاستفادة منه على أفضل نحو، مؤكدًا أنه سينهى مسيرته العملية بعد خروج آخر موظف، وسيجلس فى المنزل امتثالا لرغبة أبنائه.
أقدم عامل فى التحرير روى حكايته مع المبنى القديم قائلا:"انا لما اتعينت وانا شاب صغير فى سنة 66 مكنتش عارف أنى هحب المكان هنا بالشكل ده لغاية ما اتثبت فى سنة 70، ولغاية دلوقت عدت على 50 سنة فى موقعى هنا تقريبا شفت مصر كلها بحلوها ووحشها انا حافظ كل دور وكل أوضة فى المجمع هنا زى بيتى وأكتر كمان".
ويضيف عم جمعة :"انا خرجت معاش فى سنة 2007 لكن اشتغلت مع شركة أمن خاصة عشان أفضل فى المجمع، ورفضت فلوس أضعاف مرتبى حبًا فى المكان ده.. انا عندى خمسة أولاد اثنين محامين وثلاثة مهندسين، اتحايلوا علىّ عشان استريح من الشغل لكن رفضت.. لدرجة أنهم اشتكونى لمديرى وقالهم زى ما بقوله انا لو سبت المجمع وقعدت فى البيت هموت".
حالة من الارتباط الشديدة تشعر بها أثناء حديث عم جمعة عن المجمع الذى يعتبره بمثابة مقياس لأحوال المصريين قائلا:"تقدر تقول إن وشوش الناس هنا هى ترمومتر البلد من نظرة وحدة تعرف أحوال المصريين"، مضيفًا:" مثلاً انا فى نكسة 67 شفت وجوه محبطة وعيون مكسورة بس برضه الشغل موقفش.. وأجمل أيام حياتى هنا كانت بعد نصر أكتوبر 73 الكل كان خايف على بعضه وشغل فى كل الإدارات .. وأكتر مرة حسيت إن المصريين زعلانيين كان يوم اغتيال الرئيس السادات الله يرحمه فى سنة 81".
وحول سير العمل فى المجمع وأكثر الفترات انضباطًا على مر الأنظمة التى عاصرها قال عم جمعة :"من فضل الله الشغل موقفش فى المجمع إلا فى حالات نادرة، رغم أنه كانت هناك حالات انتحار تحدث، منها مرة كنت واقف فى الصينية حيث فوجئت بشخص يسقط بجانبى.. حتى يوم الزلزال فى 92 تم تجاوز الأمر سريعا رغم حالة الرعب و لم تكون هناك خسائر"، مضيفًا :" أحسن أيام كانت الناس مرتاحة فيها كانت أيام السادات، كنت تحس إن الناس مرتاحة شوية ومش مضغوطة، ولا عليهم كمية الهموم اللى كانت موجودة فى فترات تانية".
ويقول:"أكثر شىء يؤلمنى فى العمل هنا سلوكيات بعض الجمهور الذى يتردد يوميا بالآلاف، فلو اعتبر كل منهم أن هذا المكان بيته لما كنا سنرى المهازل التى نراها ومنها دورات المياه والتى لا يمر يوم على افتتاحها حتى نجدها محطمة مرة أخرى".
ويستكمل أقدم عامل فى مجمع التحرير بعد الوصول إلى الدور الأعلى قائلا:" من هنا شفت مصر كلها.. وخصوصا فى ثورة 25 يناير اللى كانت ماشية زى الفل لغاية يوم الجمعة 28 يناير الساعة 4 العصر، بدأت أقلق على المجمع.. وفضلت مقيم هنا لمدة شهر متواصل مكنتش بروح إلا نادرًا عشان خفت على المجمع زى ما تقول خفت على عمرى كله أنه يضيع قدام عينى بس كنت واثق من القيادة هنا أنها تقدر تحميه وفعلا حافظوا عليه".
ويضيف عم جمعة :"انا شفت فى ثورة يناير حاجات مكنتش اتوقعها أبدًا، بس كنت بزعل من الشباب لما كانوا يحرق عربية شرطة ولا مكان حكومى.. وكنت بقولهم ديه فلوسك واللى هيجى أيا كان هيصلحها من ضرايبكم"، مضيفًا:" بس انا متفائل بأحوال البلد فى الفترة اللى جاية.. وانا من فوق التحرير بشوفها جملية جدًا.. وأحسن بلاد الدنيا رغم أنى عمرى ما سافرت برّه أبدًا".
أسانسير المجمع.. "صندوق الدنيا"
لم يُخف عم "على" عامل الأسانسير داخل المجمع منذ 42، حزنه الشديد من قرار الإخلاء خاصة أنه يرى عمره وحياته فى هذا المكان الذى بدأ قصته فيه عام 1975، وتحديدًا "الأسانسير" الذى يعتبره بيته الثانى فرغم مساحته الضيقة، فله قصص وحكايات معه لا تنسى، سيظل يرويها لأبنائه وكل من يعرفه حتى بعد خروجه على المعاش فى شهر مارس القادم.
مسؤول مصاعد المجمع كشف عن سر ارتباطه بعمله قائلا:"انا بحب المجمع جدًا وبرتاح بوجودى.. هنا اتعلمت كل حاجة وشفت كل أنواع البشر، بحاول أرضى الناس على قد ما أقدر.. والمشكلة الأبدية إن الكل بيجى فى نفس الميعاد ويمشى، ومعاهم الجمهور .. ومفروض 10 أسانسيرات تستقبل كل هذا العدد.. وأحيانا الجمهور بيكون لا يعلم موقع الأسانسيرات الجانبية مما يخلق أزمة إضافية لكن كل الأمور بالهدوء بيتم التعامل معاها".
واسترجع عم على ذكرياته مع مصعد المجمع قائلا:"فى سنة 92 يوم الزلزال كنت أمارس عملى فى الأسانسير، والغريب أنى محستش بحاجة والمجمع متهزش كمان"، مضيفًا:"لما اليوم عدى سألنا المهندسين ليه المجمع متهزش.. قالوا لنا إنه كان معمول على أساس إن لو فيه زلزال لا يتأثر".
وحول أغرب الوقائع التى مرت عليه يقول عم على :"فى عام 97 حصلتى مشكلة مع ست كانت بتولد بس للأسف النور قطع واحنا فى الأسانسير.. انا كان عندى فكرة عن صيانة الأسانسير ومكنش فيه وقت أطلب مسئول صيانة لإنقاذ حياة السيدة، وبالفعل فتحت باب السقف وطلعت عشان أصلح العطل.. المشكلة أن النور جيه وفى نفس الوقت الست ولدت فعلا والأطفال نزالوا جوزها لما شاف الوضع خاف وارتبط وضغط على زر الأرضى.. قام التيار فوق شال جلد ايدى اليمن بالكامل، بس الحمد لله ولدت توأم سمت طفل على والتانى محمد".
ويُضيف :"وفى واقعة تانية فى 2004 مش قادر أنساها، كان فى شخص سوادنى نازل معايا فى الأسانسير بعد ما خلص شغله فى إدارة البعثات بس أغمى عليه، وافتكرته مات خلاص، ونزلت أرضى على طول، واستملته الاسعاف لكن الحمد لله طلع عايش بس كتله نوبة قلبية".
ويتذكر عم على أن شخصيات بارزة فى كافة المجالات صعدت بجواره، قائلا:"ركب معايا فى الأسانسير ناس من كل المناسب والمجالات، مثلا انا كان بيركب معايا اللواء حسن الألفى وزير الداخلية الأسبق أيام ما كان ماسك مدير مباحث الأموال العامة، وكان يعرفنى بشكل شخصى.. وبصراحة عمره ما تخطى الدور، دايما يقف فى الطابور زيه زى أى مواطن تانى"، مضيفًا:" وكان من قيادات الداخلية بيركب معايا دايما اللواء رءوف المناوى مساعد وزير الداخلية الله يرحمه بس هيبته كانت جامدة بين الظباط".
وتابع عم على حديثه قائلا:" ومن الممثلين كثير جدا وطبعا كل أبطال فيلم الإرهاب والكباب خصوصا يسرا والزعيم عادل إمام اللى كان لىّ معه أكثر من موقف منهم مرة كان طالع الدور الـ 8 ولقى الناس بتنادى يا عم على.. راح قالى على فكرة يا على انت اتخن واحد فيك يا بلد بتجيبه الأرض.. درت عليه وعلى فكرة انا اتخن واحد فيك يا بلد بطلعه لفوق منا عامل أسانسيرات".
ويُضيف :" المرة الثانية كانت أثناء تصوير مشهد صعود الطفل للدور العلوى، وانتظار كمال الشناوى الله يرحمه تحت المجمع وبعدها، و طلب الكباب بعد اللقطة ديه و ساعتها سألنى أستاذ عادل انت اكلت يا عم على ؟.. قلتله لأ، وقتها كان الكباب وصل، وفعلاً لاقيته باعتلى أكل مع أشرف عبد الباقى"، مضيفًا :" تصوير فى الارهاب والكباب كان أغلبه بالليل لأنه فى رمضان أوقات قليلة الصبح، وكان فريق العمل بيطلع فى المصاعد زيه زى الجمهور".
وعاد عم على لاستكمال حديثه عن حكاياته مع الشخصيات البارزة قائلا:"من الفنانين اللى طلعوا معايا يحيى الفخرانى وممدوح عبد العليم الله يرحمه كان طالع الدور الـ 12.. وهالة صدقى وهالة فاخر دخلت مرة الأسانسير غلط واستنت لغاية ما طلعت ونزلتها تانى واعتذرلتى بكل أدب.. وكمان افتكر إن محى الدين إسماعيل طلع معايا أكتر من مرة، وعرفنى لدرجة أنه سألنى انت لسه مطلعتش على المعاش يا على.. هو مفيش غيرك فى المجمع ولا ايه؟.. قلتله شغلى وبحبه.. فرد: ربنا يباركلك".
وتابع حديثه :"كما من نجوم الكرة طلع معايا حسن حمدى، رئيس النادى الأهلى السابق، والكابتن محمود الخطب اللى كان بيجى يزور أصدقاء شغالين هنا فى المجمع دايما، مضيفًا:" بالنسبة للشخصيات السياسية انا ممكن أكون فاكر الوجوه لكن الأسماء مفتكرش لأنى مش بتابع سياسة".
عجلة الانتاج فى المجمع.. عقود من الدوران
أسامة عبد العال المدير التنفيذى للمبنى 28 سنة خدمة.. لا ينسى حكاية تجربة حريق قلبت مصر.. ويؤكد لازم تحب الشغل هنا عشان تكمل.. ومشهد سينمائى يحطم زجاج المجمع
يتحمل الهيكل الإدارى لمجمع التحرير عبء كبير حتى تسير عجلة الانتاج فى الإدارات المختلفة التى يحتويها المبنى، خاصة أن حدوث أى خطأ من شأنه تعطيل مصالح لا يمكن حصرها فى قطاعات متعددة، أحد العاملين فى هذا القطاع الادارى هو أسامة عبد العال، المدير التنفيذى ومدير أمن المجمع الذى بدأ قصته مع المبنى العتيق منذ عام 1988.
يُؤمن أسامة عبد العال أن السر وراء بقاء عمله فى المجمع طيلة 28 عامًا والتدرج من مسئول أمن حتى أصبح المدير التنفيذى فى عام 2003، أنه يعتبر هذا المكان أكثر من منزله، ويحبه لأقصى حد رغم الضغوط اليومية التى يتعرض لها حتى تسير ماكينة العمل، ويوميًا لابد أن يتم التأكد من عمل المصاعد وصيانة شبكة الحريق، وطلمبات المياه، وتحمل ضغوط التعامل مع الجمهور بمختلف فئاته.
وأشار المدير التنفيذى إلى أنه على المستوى الشخصى حزين لإخلاء المجمع لكن الأمور لا تقاس بالعواطف، مؤكدًا أن الحديث عن إخلاءه بدأ منذ عام 2004، وبالفعل تم إخلاء عدد من الإدارات لكن الأمور توقفت وعادت فى الفترة الأخيرة، لكن هذه المرة تم إخطار جميع الجهات.
ويحكى المدير التنفيذى واقعة عاصرها تبرز أهمية ميدان التحرير وموقعه قائلا:" فى آخر عام 2002 أو بداية عام 2003 كنا بنعمل تجربة حريق لمولد الديزل، وطلع منه دخان كثيف، البعض افتكر أن المجمع بيتحرق وفوجئنا هنا بحوالى 10 عربيات مطافى، والدنيا كلها اتقلبت علينا"، مضيفًا :"يوميًا ممكن يحصل حريق محدود بسبب سلوك البعض لكن بفضل الله يتم السيطرة عليها"، مضيفًا :"بالنسبة لحوادث الانتحار المتعددة يتم التعامل معها بهدوء حتى يزوال آثار الحادث".
ويُضيف :"أكثر ما يشغلنا استمرار العمل فى المجمع رغم أى حوادث.. نحن نسمع دائما عن حوادث تفجيرات وبفضل الله الأمور سارت منذ سنوات ولم يحدث شىء حتى أنى أتذكر فترة التسيعنات كانت هناك افراد امن فى "خدمة سيارة" خلف المجمع، وعندما كانوا يكتشفون كيس قمامة كان يتم التبليغ عنه على الفور، وكذلك إذا تواجدت أى سيارة فى مكان لفترة طويلة كان يتم التحرك تجاهها على الفور.. ونحمد الله أن هذه الفترة مضت وما بعدها وحتى ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث مر مرور الكرام".
ويرى أسامة أن تصوير عدد من الأفلام السينمائية فى المجمع نظرًا لأنه فصل هام فى حياة المصريين، مؤكدًا أنه عاصر العديد من الأعمال التى تم تصويرها فى هذا المبنى منها فيلم يدعى "الانفجار" بطولة عزت العلايلى وفاروق الفيشاوى.
وحول ذكرياته مع تلك المجمع يقول مدير أمن المجمع:"أتذكر أن الثنائى عزت العلايلى وفاروق الفيشاوى كانوا يجلسون فى مكتبى أثناء تصوير فيلم الانفجار.. وفى مرة قلت لاستاذ عزت ملاحظة على أدائه الأمنى، وبالفعل استجاب لىّ خاصة أنى حاصل على عدد من الفرق فى الجانب الأمنى".
ويضيف :"عاصرت فيلم الارهاب والكباب .. ولا أنسى مشهد إلقاء أنانيب أثناء محاولة قوات الأمن اقتحام المجمع، وصوت والانفجار الذى تم عمله، والذى تسبب فى تحطيم الزجاج هنا كما أنه أصاب ركاب فى مترو الانفاق وقتها بالرعب الشديد"، مضيفًا :"أيضا كنت بجوار الفنان الراحل علاء ولى الدين أثناء مشهد كتاب الجواب لوالدته قبل محاولة انتحاره من فوق المجمع، ونصحته بأن يترك الورق تطير فى الهواء لأنه عندما كان يقذفها كانت تعود للوراء".
طوابق التحرير.."لكل دور حكاية" .. الدور الارضى تحول لمستشفى لعلاج المصابين فى 25 يناير.. والجوازات والهجرة كانت الادارة الوحيدة المستمرة فى عملها بالدور الاول اثناء .. واجتماع محمد نجيب بمجموعة من الضباط فى الدور الـ 12
آلاف الأقدام تطأه يوميًا لقضاء حوائجها مختلفة على مر ستة عقود من الزمن حتى أصبح لكل موضع قدم بداخله حكاية وسر يخص أشخاص فما بالك بالطوابق الـ 13 التى يملك كل منهم علامة مميزة يتحدث عنها العاملين كلما سنحت لهم الفرصة لاسترجاع تلك الذكريات.
و حسب اللواء محمد أيمن عبد التواب، نائب محافظ القاهرة للمنطقتين الشمالية والغربية، ، فإنه تم إخطار جميع الإدارات التى تشغل المجمع من كافة الوزارات منذ عام تقريبًا بالإخلاء، مؤكدًا أن الهدف الرئيسى من خط الإخلاء تقليل الزحام فى منطقة التحرير وإحداث سيولة مرورية، لافتًا إلى أن آخر موعد للإخلاء سيكون 30 يونيو 2017، ولم يتم تحديد ماذا سيتحول فى المستقبل، وقبل الرحيل نبرز تاريخ بعض من الأدوار بالمجمع.
البداية مع الدور الأرضى، الذى تطأه يوميًا وفقًا للأرقام الرسمية من 20 إلى 25 ألف شخصًا، ولهذا الدور حكايات كثيرة آخرها فى ثورة 25 يناير فتحول أحيانًا لمكان لعلاج المصابين أوقات أخرى للتحفظ على الموتى، وأحيانًا القبض على الخارجين عن القانون.
وفى الطابق الأول تتواجد مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية، التى يشهد لها العاملين بالمجمع أنها الإدارة الوحيد التى لم تتوقف عن العمل فى فترة ثورة 25 يناير، ورفضت القيادات المسئول عنها مغادرة موقعها لدرجة أنهم كانوا ينامون على مكاتبهم، ويدخلون إلى المجمع من الأبواب الجانبية.
وتُعد إدارة الطرق والنقل الكائنة بالدور الأرضى، المكان الوحيد الذى تعرض لخطر الحرق فى ثورة 25 يناير، ويقول محمد إسماعيل خطاب، يعمل بالمجمع منذ عام 2002:"فى ثورة 25 يناير تعرضت جميع غرف الإدارة للكسر ثم الحرق الكامل، وكذلك سرقة الأجهزة الكهربائية البسيطة الموجودة"، مضيفًا:"تم إعادة الإدارة إلى وضعها وشراء مكاتب وأدوات جديدة عن طريق مقاول شهير مشهود له حب عمل الخير والوطن".
أمّا الدور الثالث الذى تم غلقه بالتجويف الدائرى الشهير للمجمع، فلهذا الأمر قصة وفقًا لروايات عدد من العاملين، فقد تم اتخاذ هذا القرار بعدما سقطت زجاجة مياه غازية من أحد الأدوار على رأس مواطن ألمانى كان متواجدًا فى المبنى لقضاء غرض معين، ولحسن حظ المواطن الألمانى أن الزجاجة لم تسقط مباشرةً على رأسه واصطدمت بإحدى الحوائط مما جعل إصابته بسيط لكن هذا لم يمنع من اتخاذ قرار غلق التجويف.
بينما الدور الخامس، له قصة شهيرة تعود إلى سبعينات القرن الماضى وفقا لعم جمعة اقدم العاملين فى المجمع قائلا:"أصعب يوم مر على فى المجمع كان فى الدور ده بعدما اتفجرت قنبلة بدائية الصنع اتقال وقتها إن ليبيا وراءها بسبب موقف السادات من قضية الحرب والسلام مع إسرائيل.. انا يومها بكيت وشفت الشاب اللى رمى القنبلة بعد ما مسكوه قال قدامى أنه صنعها فى حديقة الحيوان وبعدين طلع على المجمع.. اليوم ده اكتر يوم بكيت فيه معرفش ليه كنت خايف على المجمع".
أما الأدوار الثامن والتاسع والعاشر، شهدت العديد من حالات الانتحار للمتهمين فى القضايا المختلفة عبر السنوات المختلفة، آخرها فى يناير 2015، بعدما قام متهم بإلقاء نفسه من الدور الثامن إثر ضبطه بحوزته خمور مستوردة من قبل الإدارة العامة لمباحث الأموال العامة الكائنة .
ويمتلك الدور الـ 12 حكاية تاريخية وفقًا لما سرده عم جمعة قائلا:"من أول يوم دخلت المجمع عرفت أنى بشتغل فى أهم مكان فى مصر.. حتى انا قابلت محمد عبد الله تجانا أول واحد دخل المجمع، كان من عمال قناة السويس.. الرئيس محمد نجيب منحه لقب "عمدة المجمع" بقرار جمهورى شفت معاه وقريته كمان.. عم تجانا حاكلى عن اجتماع للرئيس محمد نجيب مع مجموعة من الضباط فى الدور الـ "12" اللىّ هو مكان إدارة الحوادث دلوقت .. كنت بسمعه وانا مبسوط جدًا مكنتش عارف أنى هيجى يوم وأحكى انا كمان".
مجمع التحرير "شاهد" على الثورة.."تحطيم 212 حجرة وحرق إدارة".. "لا تدمروا عقل مصر" كانت السر فى إنقاذ المبنى العتيق من التحطيم .. وشهادة حول حريق أول سيارة شرطة
مبنى مجمع التحرير وأهله شاهدين على العديد من الأحداث الهامة عبر العصور لكن ستظل ثورة 25 يناير عام 2011، وما تلاها من أحداث الأبرز نظرًا لأن ميدان التحرير نفسه كان القلب النابض للثورة، ومحركها، وقبل رحيل المجمع لابد من التعرف على شهادة العاملين به عن هذه أيام المثيرة والصعبة على المبنى صاحب الـ"62 عامًا".
أسامة عبد العال مدير أمن المجمع يقول :"احنا شفنا اللى محدش شافه، طل الطبقات كانت هنا الفنى والفقير اللى بياكل وجبات من كنتاكى واللى بياكل سندوتشات فول وطعمية"، مضيفًا:"كان كل همنا حماية المجمع خصوصا أن فى بداية الثورة لم يتواجد جيش أو شرطة.. والميدان كان تحت سيطرة المتظاهرين على مختلف انتماءاتهم".
وأضاف مدير أمن المجمع:"كنت متواجد ليلة 28 يناير بالمجمع، والحمد لله الخسائر كانت محدودة بالنسبة لما حدث فى مصر وقتها، فقد تم كسر 212 حجرة من أجل سرقة بعض من محتويات الحواسب الآلية بالأدوار المختلفة، وكذلك تم حرق إحدى الإدارات بالدور الأرضى بعدما تم إلقاء زجاجة مولوتوف بها".
واستكمل المدير التنفيذى للمجمع حديثه :"بعد هدوء الأوضاع بشكل نسبى تم التعامل مع الأشخاص الذين كانوا يحيطون بهدوء رغم أن بعضهم كنت أراهم بلطجية لكن من خلال التعرف عليهم، والسماح لهم بالدخول باستخدام دورات مياه المجمع، وأحيانا تقديم الأطعمة والمشروبات تم الحفاظ على المجمع بشكل كبير".
وتابع :"كنا نتحدث مع المحيطين بالمبنى بأنه يعتبر بمثابة عقل لهذا الوطن لا يجب تدميره، بل الحفاظ عليه لذا كانت هناك أعلى درجات الهدوء وضبط النفس فى التعامل مع المواقف المختلفة، لذا كنت استجيب فى أى وقت لطلب غلق المجمع، الأهم بالنسبة لىّ كان الحفاظ على هذا المكان".
وكشف عبد العال:"أنه كان شاهدًا على موقعة الجمل، فالأمر كله كان عبارة عن مجموعة من الأشخاص يركبون جمل وأحصنة ويحاولون الدخول إلى داخل الميدان على أمل أن يخاف من فى الداخل ويغادرون موقعهم، لكن ما حدث أن المتظاهرين تصدوا لهم وبدأ الوضع يتطور إلى اشتباك بين الطرفين"، مضيفًا :"وقتها الأشخاص الذين كان يتم القبض عليهم كان يتم وضعهم بالمجمع من قبل قوات الجيش التى كانت تُحيط به".
وأضاف :"فى الليل بدأ إطلاق النيران من فوق أسطح العمارات، كانت ليلة عصيبة على المجمع وكل من فى الميدان، لكنها مرت فى النهاية"، مضيفًا :"المجمع تحول إلى ساحة يضع فيها الجيش المقبوض عليهم سواء بائعى المخدرات أو البرشام أو أى شىء من الممنوعات فى الفترة التى تلت الثورة".
وأشار أسامة إلى أن أكثر أيام مرت عليه حزنًا كانت يوم حرق المجمع العلمى أمام عينيه، مؤكدًا أن هناك مجموعة منعت دخول سيارة الإطفاء وقاموا بضرب المسئولين عنها وأعادهوا مرة أخرى، مضيفًا:"كنت أخشى على هذا المبنى الذى أضعت عمرى بداخله أن يواجه نفس المصير، لذا كنت اتحدث دائمًا مع من يحيطون به بضرورة الحفاظ عليه من أجل المسقبل هذا الوطن أى كان من سيحكم، وبالفعل تحقق ما أردت بالتعاون مع كافة الأجهزة المعنية فى الدولة".
لم يكن أسامة عبد العال وحده فى فريق حماية المجمع بل كان هناك أناس أخرين يعملون معه ليل نهار، منهم سعيد الكاسب، موظف بإدارة المجمع ومسئول فى الأمن الذى يشغل موقعه منذ 12 عامًا، واسترجع ذكرياته مع الثورة قائلا:"الأمور بدأت بمظاهرات طفيفة يومى 22 و23 يناير وتم فضها فجرًا من قبل قوات الشرطة إلى أن تطورت الأوضاع يوم 25 يناير حتى خرجت حشود كبيرة فى يوم 28 يناير الذى يعتبر اليوم الفاصل فى الأحداث".
وتابع مسئول الأمن حديثه :"فى يوم 28 يناير شاهدت أول سيارة شرطة تم حرقها، وأدركت أن الأحداث تتجه نحو التصاعد، وبالفعل حدث فراغ أمنى فى البلاد، وتشكلت حالة من العداء الشديد تجاه جهاز الشرطة وبعدها موقعة الجمل إلى أن تم إعلان تنحى حسنى مبارك".
وأكمل الكاسب حديثه :"المجموعات التى كانت تقف فى ميدان التحرير كانت تكن حالة من العداء الشديد لأى شخص ينتمى لجهاز الشرطة، لذا كنا نواجه أزمة عندما يعلم المتظاهرين أن من بين العاملين فى المجمع ضباط فى مصلحة الجوازات و الهجرة او غيرها من الإدارات، يبدأون فى الاحتكاك بهم لكننا كنا نقنعهم أن هؤلاء ضباط لخدمات مثل الجوازات وغيرها من الأمور التى تفيد المجتمع وليس الأشخاص الذين يكنوا لهم العداء، وذلك حرصًا على سير العمل فى المجمع".
وأضاف:"من الذكريات حول أيام الثورة عندما نزل عصام شرف للميدان بعد توليه رئاسة الوراء فى إحدى مليونيات الجمعة ولم يتمكن من الصلاة بسبب الزحام، لذا دخل للصلاة داخل المجمع ".
ولفت الموظف بإدارة المجمع إلى أنه له ذكرى مع أحداث محمد محمود الأولى فى يوم تم إلقاء قنبل من قبل قوات الشرطة أمام المجمع وكادت أن تدخل الى مبنى المجمع لكنى قمت بقذفها بقدمى، وأصبت بالإغماء ووجدت نفسى بعدها بساعة فى خيام المتظاهرين، والأطباء يقومون بعلاجى، مضيفًا:"داعبنى البعض أنى تخليت عن موقعى وانضممت للثوار".
وأشار الكاسب إلى أنه أكثر ما كان يحزنه محاولة البعض تعطيل العمل فى المجمع لدرجة أنهم ليلا عندما كان موظف الأمن يشغل الاضاءة فى غرفة المناوبة كان يأتى البعض ويطالبون بنزوله مدعين أنه هناك قناص سيحاولون استهداف المتظاهرين بالميدان.
وأكد مسئول الأمن أن الفئة الأكثر سوء فى رأيه التى نزلت إلى ميدان التحرير فى وجهة نظره هم أولاد حازم صلاح أبو إسماعيل، مؤكدًا أن أحاديثهم لم تكن تنم عن أنهم أشخاص يريدون الخير لهذا الوطن، مختتمًا :"الحمد لله أيام عدت على خير والمجمع لسه موجود".