ربطت كثير من التقارير بين تيريزا ماى وموقفها المتشدد من المهاجرين وجماعات العنف الدينى، واتصالها بولى عهد أبو ظبى الشيخ محمد بن زايد، حسب قول صحيفة العرب اللندنية، والزيارة الناجحة الحالية لوفد مجلس العموم البريطانى إلى مصر، والتصريحات الداعمة للقاهرة التى خرجت منه، برغبة الحكومة الجديدة فى إعادة ترتيب ملف جماعة الإخوان المسلمين، ما دفع الإخوان إلى تحرك سريع مبكر بزيارة وفد تابع لهم لبريطانيا، منتصف الأسبوع الماضى، والذى ضم عضوين من ما يسمى "المجلس الثورى" للإخوان فى تركيا، وهما فاروق مساهل عضو تحالف مصريون من أجل الديمقراطية بالمملكة المتحدة، وسها الشيخ عضو المجلس الثورى التابع للإخوان، والمنسق السياسى والبرلمانى فى أوروبا، إلى عدد من مسئولى الحكومة البريطانية، وأعضاء بمجلس العموم البريطانى، فى محاولة التواصل مع رئيسة الوزراء الجديدة، الأمر الذى قوبل بفتور حسب بعض التقارير من مجلس العموم البريطانى، ولكن علاقة بريطانيا بالإخوان قديمة ومتشعبة وتدير الجماعة هناك 13 مؤسسة خيرية ومالية كبرى، يتحكم فيها عدد من الأشخاص من قيادات التنظيم الدولى، يوجهون الأموال منها وإليها، ويستثمرون أيضاً فى قطاعات مختلفة، مثل تجارة التجزئة والقطاع المالى والملابس، مما يجعل الإجابة على سؤال هل تعيد بريطانيا بلورة علاقتها بالإخوان؟، صعبة للغاية.
تشدد تيريزا ماى نحو المهاجرين
تغيرت الأمور فى بريطانيا فجأة، بعد أن صوت البريطانيون لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، فى الاستفتاء الذى دعا إليه ديفيد كاميرون رئيس الوزراء السابق فى 13 يونيو الماضى بنسبة 52 % مقابل 48% لصالح معسكر البقاء بالاتحاد الأوروبى.
فور إعلان النتائج قرر ديفيد كاميرون التخلى عن منصب رئيس الوزارء، معلناً أن هناك رئيس وزراء أخر سيأتى ليقود إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى حسب المادة 50 من اتفاقية لشبونة،
ليظهر اسم وزيرة الداخلية فى حكومة ديفيد كاميرون تيريزا ماى جلياً فى الترشح على زعامة حزب المحافظين، والتى دخلت فى منافسة مع عدة شخصيات بارزة بالحزب حسمتها كلها لمصلحتها لتتسلم ماى المنصب فى 14 يوليو 2016.
و"ماى" لها موقف متشدد من المهاجرين، حيث فرضت اختبار إجادة اللغة الإنجليزية قبل قبولهم فى بريطانيا، ورفعت رسوم التأمين الصحى عليهم، وتمكنت من ترحيل المتشدد "أبو قتادة" للأردن بعد سنوات طويلة من المعارك القضائية، كما أنها من أبرز منتقدى سياسات الهجرة الأوربية، ووقعت كثير من قرارات سحب الجنسية من مهاجرين لشكها فى ارتباطهم بمتشددين، لكن تصريحاتها عن الإسلام متوازنة ورفضت أكثر من مرة ربطه بالإرهاب.
فور تولى تيريزا ماى منصب رئيسة الوزراء بدأت أسئلة عديدة تطرح نفسها على الساحة، منها كيف ستدير ماى إجراءات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى؟، وكيف سيؤثر هذا الخروج على الاقتصاد البريطانى؟، خاصة أن الجنيه الاسترلينى انخفض بنسبة 9% أمام الدولار فور إعلان نتائج الاستفتاء فى أمر لم يتكرر منذ عام 1985، وكانت أحد الأسئلة المطروحة ما مصير تنظيم جماعة الإخوان المسلمين التى تتخذ لندن مقراً رئيسياً لتنظيمها الدولى وتتم على أراضيها معظم تعاملات الجماعة فى ظل العلاقة التاريخية التى ربطت التنظيم منذ نشأته عام 1928 ببريطانيا؟.
العلاقة التاريخية بين تنظيم الإخوان وبريطانيا
الأحداث التاريخية الموثقة ربطت الإخوان ببريطانيا منذ تأسيس الجماعة فى مدينة الإسماعيلية عام 1928، تلك المدينة التى أنشأها الإنجليز لتكون مقراً لشركة قناة السويس، وكانوا يسيطرون على أجزاء منها من الإسماعيلية فى ذلك الوقت، منها من ربط بين نشأتها والمخابرات البريطانية فى هذا التوقيت، ومنها من اتهم الجماعة فقط بتلقى تمويل من الإنجليز، ولكن الكاتب البريطانى مارك كيرتس أكد فى كتابه "التواطؤ البريطانى مع الإسلام الراديكالى"، أن الاتصالات بدأت فى بداية الأربعينيات من القرن الماضى، بعد خروج حسن البنا من المعتقل، والذى كان قد ألقى فيه بطلب من السفارة البريطانية، حسب قول محمد حسنين هيكل فى كتابه مذكرات فى السياسة، حيث طلب الإنجليز دعم الإخوان فى مواجهة الألمان وعرضوا الأموال لذلك، ويؤكد كيرتس فى كتابه أنه لا يوجد وثائق تؤكد قبول أو رفض الطلب، ولكن حسب تعبيره، أن هجوم الإخوان على الإنجيلز قلت حدته بشكل كبير بعد هذه اللقاءات، الإخوان بدورهم نفوا بشدة كل هذه الأقاويل ولكنهم اعترفوا بوجود المفاوضات، وزعموا أنهم طلبوا من هيروث دان الذى قادها بجلاء الإنجليز عن مصر وجلاء فرنسا من سوريا ولبنان وعدم دعم اليهود فى فلسطين، ومدهم بالسلاح والذخيرة بحجة محاربة الطليان فى ليبيا، الذى طلب العودة للندن قبل الرد عليهم.
بعد ثورة 1952 واعتراف الإخوان بحركة الضباط الأحرار دخل جمال عبد الناصر فى مفاوضات مع الإنجليز للجلاء الكامل عن مصر، ويؤكد كيرتس أن البريطانيين عقدوا لقاءات عدة مع حسن الهضيبى فى أوائل عام 1953 للمساعدة فى هذه المفاوضات، ذلك الأمر الذى فسره ريتشارد ميتشيل، المحلل الشهير لشئون الإخوان، أن هدف اللقاءات كان دفع الإخوان للمشاركة فى مفاوضات الجلاء البريطانى عن مصر، مع ضمان وقوفهم ضد عبد الناصر الذى أدان هذه اللقاءات، واتهم الهضيبى بقبول بعض الشروط البريطانية للجلاء، وهو الأمر الذى صعب من موقف الحكومة المصرية فى المفاوضات، حيث مارست بريطانيا سياسة 'فرق تسد'، مشيراً إلى أنها هى التى أبلغت عبد الناصر بلقاءات الهضيبى معها.
وبعد الخلاف الشهير بين عبد الناصر وجماعة الإخوان ومحاولة قتله المعروفة إعلامياً بحادث المنشية، تم القبض على عدد كبير من الجماعة وزجوا فى السجون وصدرت ضدهم أحكام بالحبس والإعدام، ولكن استطاع عدد منهم الفرار من مصر لجأ معظمهم إلى بريطانيا، التى وفرت ملاذ أمن لأعداء عدوهم الجديد فى الشرق الأوسط.
فى مقابلة صحفية أجراها الدكتور كمال الهلباوى (أحد أبرز قيادات جماعة الإخوان فى لندن فى فترة التسعينيات قبل أن ينشق عنهم فى أعقاب إعلانهم خوض معركة الرئاسة فى مصر عام 2012) مع صحيفة الشرق الأوسط، أكد الهلباوى أن التعاون بين الحكومة البريطانية وجماعة الإخوان يعد سمة ثابتة من سياسة بريطانيا، وقال الهلباوى إنه خلال منتصف 1990، عندما شن حسنى مبارك حملة على الجماعات الإسلامية المصرية، فإن الحكومة البريطانية التى وفرت اللجوء السياسى لأغلب أعضاء الجماعات الإسلامية، عرضت عليه حماية شخصية، وهو الأمر الذى أكدته سلسلة الوثائق التى كشفها الصحفى مارتن برايت المحرر السياسى بجريدة الجارديان عام 2005، والتى أكدت بأن المسئولين فى المملكة المتحدة كانوا على علاقة وطيدة مع الإخوان المسلمين خلال معظم سنوات العقد الماضى، وكشفت الوثائق أيضًا أنه قبل عام 2002 كانت وزارة الخارجية تحتفظ بالتواصل على مستوى العمل مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وبعض أعضاء البرلمان، هذه الاتصالات التى كشفتها السلطات المصرية وأبدت استياءها بشكل واضح للمسئولين البريطانيين، مما دفع وزارة الخارجية إلى تخفيض مشاركتها مع الإخوان لتكون اتصالات عرضية فقط، على أن يكون هناك اتصال دائم بعدد محدد جدًّا من الأعضاء.
رغم نفى جماعة الإخوان كل التقارير التى تربط بينهم وبين بريطانيا، مؤكدين أن علاقتهم بالحكومة البريطانية "عادية"، متعللين بالعمليات التى قاموا بها أثناء احتلال الإنجليز مصر، وانهم أعلنوا الجهاد صراحة ضد بريطانيا فى عام 1951 ، وأن ديفيد كاميرون رفض مقابلتهم فى أعقاب زيارته لمصر بعد ثورة يناير 2011، إلا أن أنشطة الجماعة ووجودها وسهولة تحركها فى لندن، واختيار الجماعة لندن لتأسيس موقع أخوان أون لاين بالإنجليزية عام 2005، وهروبهم إليها فى أعقاب ثورة 30 يونيو وتأسيس مقراً جديداً فى منطقة «كريكل وود» بشمال لندن؛ حيث يديرون حملتهم ضد مصر ويعيدون رسم مستقبل الجماعة مرة أخرى، يوضح مدى العلاقة بينهما وبين بريطانيا، لدرجة أن مجلة فورين بوليسى الأمريكية وصفت لندن بأنها المكان الطبيعى لجماعة الإخوان خارج مصر.
وتظهر جلية علاقة جماعة الإخوان ببريطانيا من تصريح الرئيس السابق لوحدة الاتصال بالمسلمين فى شرطة لندن، الدكتور روبرت لامبرت، فى مجلة «نيو استيتسمان» فى 5 ديسمبر 2011، حيث قال " يجب أن تفخر بريطانيا بنجاحها فى توفير ملاذ آمن لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين خلال العقود الثلاثة الماضية".
وبالتأكيد تصريح عضو مجلس اللوردات البريطانى جيمس دير فى حواره لموقع 24، أن "البرلمان البريطانى أجرى عدة تحقيقات موسعة حول وضع تنظيم الإخوان خلال الفترة الماضية وذلك بعد تحقيق السير جينكيز حول نشاط جماعة الإخوان في بريطانيا، وكانت النتائج أن الجماعة تعد مصدر خطر وتلجأ للعنف، وهناك نظرة عامة من الشعب البريطانى أن الإخوان خطر على بريطانيا والدول الأخرى، لكن البعض يرى أن الجماعة حزب سياسي يمارس عمله، وهى تتظاهر بأنها حزب سياسى، ولكنها تعمل على تشجيع الإرهاب والعنف فى الواقع، وهو الأمر الذى نرفضه جميعاً، وخلال الفترة المقبلة ستكون هناك تحركات لرصد أية أنشطة مشبوهة أو خطوات تسعى لنشر العنف من قبل التنظيم فى ظل العمليات الإرهابية الأخيرة التى تواجهها أوروبا"، له دلالته الهامة.
إرسال جماعة الإخوان لوفد من تركيا لعقد لقاءات مع مسئولين بريطانيين، فى حين أن قيادات التنظيم الدولى موجودة أصلاً فى بريطانيا ولهم علاقات عديدة هناك، يوضح أن هذه الخطوة ما هى إلا تقديم وجوه فقط، ومازالت تحتفظ الجماعة بكروت الضغط لمرحلة أكثر خطورة تشعر أنها قادمة.
العديد من المعلقين والباحثين اهتموا بماهية العلاقة بين الإخوان وبريطانيا، ولكن ندرة الوثائق تجعل من الصعب تحديد نوعها، مع المغالاة لدى البعض فى وصفها، ولكن الأقرب أن العلاقة بين بريطانيا والإخوان تقوم على أساس المصلحة، اختلاف الأهداف واضح بينهما، وكلاً منهما كان ينظر للأخر باعتبار أنه وسيلة لتحقيق هدفه، وتطوير رئيسة الوزراء لعلاقتها مع مصر بالتخلص من الإخوان سيفيدها كثيراً على المستوى الاقتصادى والسياسى، ولكن الأسئلة الأهم هنا قبل أن تتخذ تيريزا ماى أى قرار حول التنظيم، ما هى قدرتها على الاستغناء عن الخدمات التى تقدمها الجماعة لبريطانيا؟، وما هى قدرتها على تحمل المشكلات التى ستصنعها لها؟، وماذا ستسفيد بريطانيا من اتخاذ قرار بملاحقة الإخوان؟ وهل هى فى حاجة لتصفية التنظيم بلندن أم تكتفى بتضييق الخناق عليه أو أن تطوير علاقتها به كى يفيدها فى تحقيق أهدافها المستقبلية بشكل أفضل؟.
كل هذه الأسئلة من تملك إجابتها هى الغامضة تيرزا ماى وحدها، خاصةً وسط حالة الضعف الشديدة التى يواجهها الإخوان حالياً، ولكن من المبكر جداً الإجابة عليها.