نقلا عن العدد اليومى...
يولد الإنسان صفحة بيضاء، وتترك الدنيا طابعها فى أعماق نفسه، وتشكل الظروف والبيئة جزءًا لا يستهان به من شخصيته وتركيبته النفسية، ومن بين تلك المؤثرات «المهنة»، وذلك لأنها تشغل حيزًا واسعًا من جهد وتفكير واهتمام صاحبها، كونها مصدر لقمة عيشه، وفى بعض الأحيان سر سعادته، وشعوره بالأهمية، وتحقيق ذاته وطموحاته. ولكن هل توجد بصمة لكل مهنة تطبعها فى ممتهنيها على كثرتهم واختلافهم؟، هل لاحظت يومًا أن هناك صفات مشتركة بين أبناء المهنة الواحدة على الرغم من تنوع ثقافاتهم وبيئاتهم؟ «انفراد» تكشف أسرار السيكولوجية الكامنة فى طبيعة عملك، وندلك على تفاصيل علاقة المهنة بالسلوك النفسى من الناحية الطبية والنفسية.
تقول الدكتورة أمل عطوة، استشارى الطب النفسى: بالفعل هناك مجالات للعمل منذ زمن تتوارثها الأجيال فى العائلات، وكأنها صفة وراثية، مثل ظاهرة Family business داخل بعض العائلات التى تقدس الفكرة، وتعمل على ترسيخها فى أبنائها، فينشأ الشخص بعقلية تجارية، وغالبًا ما يحقق النجاح المتوارث فى عائلته، ونجد عائلات بأكملها تعمل فى مجال الطب، وإذا لم يستطع أحد أفرادها تحصيل مجموع كلية الطب على وجه الخصوص، يتجه للدراسة فى كلية لها علاقة بالمجال الطبى، مثل كلية العلوم مثلًا، بنية فتح معمل للتحاليل فيما بعد، لذا نجد أن وعى الطفل يتشكل فى مثل هذه الأجواء، ويتأثر بها جدًا، نتيجة لتبنى الأسرة هذا التوجه.
أعلى نسب الاكتئاب بين الأطباء
وتوضح الدكتورة أمل عطوة أن مهنة الطب من مجالات تقديم الرعاية، بمعنى أنه من المفترض أن يكون العامل فى هذا المجال ذا قدرة ورغبة عالية فى تخفيف آلام الناس، والعمل لفترات طويلة تحت ضغط شديد، خاصة أولئك الذين يعملون فى مجال الجراحات، لذا نجد أن أعلى نسب الإصابة بالاكتئاب تكون غالبًا بين الأطباء.
وتقول «عطوة»: المفارقة أنه من الصفات التى تنمو لدى الطبيب إهمال حالته الصحية، وتغليب الدفاع النفسى المسمى بالإنكار أو التغافل عن الحالة الصحية، واعتبار أن كل شىء بخير مادام قادرًا على المقاومة، وأيضًا رفض تلقى الرعاية، لذا يعتبر الطبيب أسوأ مريض على الإطلاق، من حيث قبول العلاج والالتزام به، وقبول أن يعيش هو دور المريض.
وتؤكد الباحثة الاجتماعية فاطمة عيسى أن الطبيب منذ أن يدخل كلية الطب يعانى ضغوطًا نفسية كثيرة جديدة بسبب تعامله مع الجثث المنقوعة فى الفورمالين، والقطع الآدمية المخزنة فى الجارات لدراسة مواد التشريح والهياكل العظمية للموتى، وبعد تخرجه تفرض عليه طبيعة عمله مشاهدة الدم والحالات الخطرة، ويعيش طوال الوقت متابعًا ومتحملًا لمسؤولية الحياة والموت مع مرضاه، فيظل تحت ضغط نفسى وعصبى طوال الوقت.
هاجس التسريح فى الصحافة:
توضح الدكتورة أمل عطوة أن الوظائف التنافسية، مثل الصحافة والشركات الخاصة، حيث تكون توقعات الأداء عالية، وقضاء ساعات عمل مطولة تحت ضغط عصبى ومجهود نفسى وبدنى كبير، يكون هاجس التسريح والرغبة فى الترقى هو الهاجس الأكبر والأكثر سيطرة على العاملين فى تلك المجالات. وتشير فاطمة عيسى إلى أن الصحفى يتميز بسلوك اجتماعى خاص يختلف عن الشخص العادى، فهو معظم الوقت فى وضع stand by لالتقاط أى معلومة أو واقعة لتوظيفها صحفيًا، ولديه حاسة التقصى والتركيز فى مشاهد وزوايا لا ينتبه لها الشخص العادى، بحكم طبيعة عمله.
وظائف تطبيق القانون
وتشير الدكتورة أمل عطوة إلى أنه فى كل مجالات العمل سيكون متاحًا لك التعامل مع الخير والشر، لكن وظائف تطبيق القانون Law enforcement jobs، مثل الشرطة والقضاء، لها طبيعة خاصة، لأن أفرادها يتعاملون مع الجانب المظلم من الإنسان فقط، وذلك لأن القانون شرع لمعاقبة المخطئ، وبالتالى فإن الضابط والقاضى يتعامل مع أسوأ ما فى الإنسان، بالإضافة إلى كونها واحدة من الوظائف التى تتضمن تهديد حياة العامل بها ومعه عائلته أيضًا، لذا تمثل هذه الوظيفة ضغطًا نفسيًا شديدًا على أصحابها، ويميل أفرادها إلى الحماية الزائدة لأسرهم خوفًا عليهم من الخطر، ويتعين عليهم بطبيعة عملهم التحلى بالصرامة والسرعة فى اتخاذ القرارات، خصوصًا فى المواقف التى تعرض حياتهم وحياة أحبائهم للخطر، وأكبر تحدٍ يواجهونه هو فصل التوجه الذى يعتمدونه فى العمل عما يواجهونه مع أسرهم فى حياتهم الخاصة.
وتوضح فاطمة عيسى أن فئة المحامين تتميز دومًا بالحذر والحيطة، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، خصوصًا فى معاملات البيع والشراء، وكل ما يتصل بالعقود، بسبب طبيعة دراستهم وعملهم فى القضايا التى تلفت نظرهم لتفاصيل دقيقة فى هذه الأمور.
قاسم مشترك بين الأطباء والقانونيين
وتضيف الدكتورة أمل عطوة أن من الدفاعات النفسية المشتركة بين العاملين فى وظائف تطبيق القانون، مثل القضاة والشرطة، وبين الأطباء الذين يتعاملون مع الوفيات ومصابى الحوادث، خصوصًا أطباء الطوارئ، هو «دفاع العقلنة»، أو التعامل مع المواقف العصيبة بالمنطق وليس بالعاطفة، لأن الإنسان لا يستطيع استهلاك طاقته فى كل حالة وفاة أو إصابة أو كارثة يتعامل معها فى العمل، بحيث لا يتبقى له ما يجعله قادرًا على مواجهة الحياة.
من المفارقات أيضًا أن هذا «الدفاع النفسى» أو «العقلنة» يستخدم كثيرًا لمن يتعاملون مع الموت بشكل مستمر، مثل عمال المشارح أو عمال الدفن أو مسعفى الطرق، إذ يعمدون إلى تقليص مشاعرهم وتخديرها أحيانًا وإلا فلن يستطيعوا الاستمرار.
وتشير الباحثة الاجتماعية فاطمة عيسى إلى أن فئة المهندسين يتميزون غالبًا بثقة عالية بالنفس، يستمدونها من طبيعة عملهم الذى يمنحهم إحساس القدرة على تحويل الصخر لطريق ممهد، وإعمار الفضاء والصحراء، وتحويل كل ما هو لا شىء إلى إنجاز مادى ملموس، مثل الطرق والكبارى والعمارات، وتلاحظ دومًا أن عقلياتهم منظمة ومرتبة بشكل رياضى، يحبون الأرقام ويبرعون فى الحسابات، ودومًا ينظرون إلى أى منشأة نظرة خاصة يبحثون فيها عن العيوب والمميزات الهندسية، فينعكس على معظم حواراتهم ومناقشاتهم.
عمل البواب مباحث
وتلفت فاطمة عيسى إلى أن طبيعة عمل البواب تفرض عليه سلوكًا اجتماعيًا معينًا، وهو مراقبة الداخل والخارج للمبنى الذى يحرسه، ويتطور هذا السلوك بمرور الوقت ليتحول إلى سلوك عام، فتجده مراقبًا لكل أهل الشارع الذى يقطن فيه، ويتابع تصرفاتهم وأخبارهم بشكل مخابراتى نوعًا ما، فتجد فى جعبته أسرار الجميع، إلى الحد الذى يدفع كثير من الناس للجوء إليه للسؤال عن الأشخاص والعائلات، خصوصًا فى أمور النسب والزواج.
وتوضح «عطوة» أن وظائف السجان ومشرفى دور المسنين والأيتام من أكثر الوظائف حساسية، لأنها تمنح العاملين بها سلطة كبيرة على مجموعة من البشر لفترة من الزمن، لذا يتم وضع رقابة متسلسلة على هذه الوظائف فى كل أنحاء العالم، لأنه من غير الممكن توقع الجانب الخفى من الإنسان، خصوصًا فى حال توليه سلطة أو رخصة التحكم فى آخر ضعيف، وغير قادر على حماية نفسه، أو مقاومة تلك السلطات، فربما تغرى السلطة صاحبها وتدفعه للتجبر والاستقواء على الآخر أحيانًا.
ذوو الياقات البيضاء والزرقاء
تقول الدكتورة أمل عطوة بأن الأشخاص الذين يعملون فى وظائف ذوى الياقات الزرقاء «المهن اليدوية»، وذوى الياقات البيضاء أو الوظائف التى تعتمد على التعليم والموهبة، يشتركون فى صفة الرغبة فى تكوين مجتمع داخلى يعبر عنهم وينتمى إليهم، وذلك لأن نوعية عمل الإنسان تؤثر على بنائه النفسى بمرور السنواتم وتصبح جزءًا من هويته وإحساسه بذاته، لذا نجدهم يفضلون صحبة من هم فى نفس المجال.
وتؤكد «عطوة» أن المتخصصين فى مجال التعاملات المالية، مثل التجار والعاملين فى البنوك، تجدهم قادرين على التعامل فى وسط تنافسى، وضغط عمل زائد فى مجال متغير يتطلب اليقظة الدائمة، وعلى هذا فإن كثيرًا منهم يعانون من التوتر الزائد والأمراض المصاحبة له، ولكن أغلبهم يكونون من شخصيات منفتحة اجتماعيًا، ولديهم قدرة عالية على التواصل مع الآخرين.
مصففو الشعر فضوليون
وتذكر «عطوة» أن مصففى ومصففات الشعر يتطلب عملهم دومًا الاقتراب الشديد من عملائهم، فيعتادون على اختراق الحدود النفسية لزبائنهم، وتجد كثيرًا منهم محبين للحديث وبارعين فيه، بل إن البعض يأتمنونهم على أسرارهم، ويذهبون إليهم أحيانًا فقط بغرض الحديث والراحة النفسية.
الفلاح.. الأكثر صبرًا
وتشير الباحثة الاجتماعية فاطمة عيسى إلى أن الفلاح يتميز بالصبر والتأمل، وذلك لأن طبيعة عمله مرهقة، وتحتاج إلى كفاح وبال طويل للحرث والبذر، وانتظار حصاد المحصول، علاوة على قضاء معظم الوقت فى مكان طبيعى مفتوح يحثه على التأمل فيما حوله.
وتلفت الدكتورة أمل عطوة النظر إلى أن هناك وظائف لا تتطلب التعامل مع الناس، يفضلها الأشخاص ذوو الطبيعة الانعزالية، فيجدون فيها الراحة، لما يشكله التعامل والاحتكاك مع الناس من مضايقة بالنسبة لهم، مثل موظفى الأرشيف، ومدخلى البيانات، ومبرمجى الكمبيوتر، وبعض أطباء التحاليل والكتاب.
أما أهل الفن، فتقول عنهم الدكتورة أمل عطوة إنهم أصحاب وظائف إبداعية مثل الممثلين والرسامين والعاملين بمجال الكتابة والشعر والموسيقى. أصحاب المواهب الذين يعتمدون فى عملهم على المشاعر يتميز الناجحون منهم بقدرة عالية على الإحساس بمشاعر الآخرين، والقدرة على التعبير عنها، وفهم نوايا الناس من خلال تصرفاتهم ومحاكاتها من خلال التمثيل، أو وصفها عن طريق الكتابة أو التلحين، وعلى الرغم من تواصلهم مع مشاعرهم بطريقة شبه دائمة، فإنه يحدث لهم أحيانًا إجهاد نفسى ناتج عن هذا التواصل الدائم. ولفتت إلى أنهم من أكثر الفئات توحدًا مع أعمالهم إلى الدرجة التى تجعلهم يصفون كل عمل من أعمالهم بأنه أحد أولادهم، كذلك يعتبر تواصلهم مع الجمهور من أسباب صحتهم النفسية عندما يعتادون النجاح والتألق فى مجالاتهم، ولكن على الجانب الآخر يسبب لهم هذا النجاح والتألق والنجومية والشهرة ضغطًا نفسيًا رهيبًا، لرغبتهم الشديدة فى الحفاظ على هذا التواصل، والخوف من انحسار الأضواء عنهم، والتى تعتبر جزءًا من كيانهم فى هذه الحالة.
«لزمة» خاصة للنجار والتاجر
وتلفت «عيسى» إلى ارتباط لزمات لفظية وحركية خاصة ببعض المهن، مثل اعتياد وجود القلم خلف أذن معظم النجارين مثلًا، وترديد جمل وألفاظ معينة بين التجار الذين يتميزون باهتمامهم بالجانب المادى والحسابات والتفكير الدائم فى طرق استثمار المال، مثل «تخسر عليا.. والله ما تجيب حق جملتها.. دى بيعة استفتاح».
مشكلة الـ Public perception
وأضافت الدكتورة أمل عطوة أنه فى معظم الوظائف توجد مشكلة الـ Public perception، أو استقبال الناس لشاغلى هذه الوظائف، وتصورهم عنها، فيضطر الإنسان للدفاع عن مهنته لشعوره بالتوحد مع هذه الوظيفة، واعتبارها جزءًا من هويته.
ولفتت إلى أنه فى كل العالم توجد اتهامات تميز كل مهنة، مثل اتهام الطبيب بأنه لا يتعاطف مع مريضه، فى حين أن المريض لجأ إليه ليعالجه على أساس عقلى وعلمى، وليس ليبكى بجانبه، لأنه فى الغالب المريض، وكل من يعرفه بكوا من أجله، أو اتهام أى شرطى بالاستعلاء والعدوانية الزائدة، فى حين أن معظم تعاملاته مع المجرمين ومغتصبى الأطفال والقتلة والسارقين.
حقائق الحياة الوظيفية
المهنة ميول وفى الغالب تكون وراثة اضطرارية.
الأطباء يحققون أعلى نسب اكتئاب وإهمال صحى لذاتهم.
هاجس التقصى والتسريح يطارد الصحفيين.
«دفاع العقلنة» قاسم مشترك بين الأطباء والقانونيين.
مصففو الشعر يخترقون الحدود النفسية لزبائنهم.
المهندسون يستمدون ثقتهم من طبيعة عملهم.
عميلات الجنس اللطيف يستنزفن طاقة ممثلى الخدمة.
البواب يتطبع بالطابع المخابراتى وأفضل مصدر للتقصى عن النسب.
السجان ومشرفو دور المسنين والأيتام يحتاجون دومَا لرقابة متسلسلة.
ذوو الياقات البيضاء والزرقاء يعشقون تكوين المجتمعات الداخلية.
العاملون فى التجارة والبنوك هم الأكثر انفتاحًا وتواصلًا.
أهل الفن بين شقى الرحى.. دعم نفسى بحب الجمهور.. ورهبة انحسار الأضواء.
مهنة سائقى الميكروباص لها طبيعة خاصة.. ولزمات للتاجر والنجار.
الأرشيف ومبرمجو الكمبيوتر للراغبين فى الابتعاد عن البشر.
الأبناء يعانون الابتزاز العاطفى والضغوط للرضوخ لرغبات الأهل فى اختيارات الدراسة والمهنة.
من أجل التوازن والصحة والنفسية اتبع ميولك وراعِ قدراتك واعمل فيما تحب.
الشغل أكثر من 8 ساعات يعرضك للأزمات القلبية
كتبت - آلاء الفقى
الحالة النفسية قد تلعب دورًا كبيرًا على صحة الإنسان، وفى هذا الإطار يقول الدكتور جمال شعبان، أستاذ ونائب رئيس معهد القلب القومى، إن الأشخاص الذين يعملون فى وظائف شخصية من «الطراز ألف»، وهى الوظائف التى تجعلهم أكثر عصبية، يكونون أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب، لأن شخصية «الطراز ألف» من الشخصيات التى يوجد لديها طموح شديد، فيجعل ذلك الجهاز العصبى السمبثاوى متوترًا بشكل دائم، و يؤدى إلى إفراز كميات كبيرة من هرمون الأدرينالين، والنورأدرينالين، اللذين يؤديان إلى ارتفاع ضغط الدم، وزيادة نبضات القلب، وتقلص الشرايين التاجية، مما يجعل الشخص عرضة للإصابة بالأزمات القلبية.
وأضاف د. جمال أن الأشخاص الذين يتعرضون للضغط العصبى فى وظائفهم مع وجود التدخين، وتعاطى المنبهات، وعدم ممارسة الرياضة، تزداد لديهم فرص الإصابة بالأزمات القلبية، ويشمل هذا الأمر الصحفيين والسياسيين والقادة والأطباء والمحامين، فهم يعملون أكثر من 8 ساعات يوميًا، وحسب ما أثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يعملون أكثر من 8 ساعات أكثر عرضة للأزمات القلبية.