الصناعة ليست بالضرورة سيارات وأجهزة بل يمكن أن تكون حماية الحرف والصناعات المهددة بالانقراض
ملف الصناعة المصرية، مفتوح منذ عقود، لكنه فى الشهور الأخيرة عاد للظهور ضمن حملات لدعم المنتج المصرى، فى مواجهة منافسة عالمية لا ترحم، وكالعادة فإن الملف يشهد كلاما كثيرا ومناقشات، ويطرح البعض حلولا تبدو بسيطة لكنها لا تجد مجالا للتنفيذ، وخلال السنوات الماضية كان الحديث عن الصناعات الصغيرة والمتوسطة مستمرا من دون عائد ظاهر، بالرغم من أن استعراض الأرقام التى تم تقديمها إلى هذه الصناعات تقدر بمليارات، ومع هذا لا تظهر تأثيراتها أو نتائجها على الواقع من حولنا.
سنوات ونحن نسمع ونقرأ ونتفرج على آراء الخبراء، وهناك شبه اتفاق على أن كل الدول التى حققت قفزات اقتصادية فى آسيا تحديدا نجحت من خلال نظام للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتقسيم العمل بين أطراف مختلفة مع وجود نظم للإدارة والتنسيق والتسويق، نجحت فى تحقيق أعلى استفادة، والأمر لا يتم بالنيات الحسنة، أو الرغبة، لكنه يتطلب إرادة ونظاما علميا.
وكثيرا ما يتحدث البعض عن الحاجة إلى «حلول خارج الصندوق» بينما الواقع يخبرنا أن هذه السبل من داخل الصندوق، وأننا بحاجة إلى تعلم ذلك من خلال بعثات وتدريب وتنمية مهارات، فى الإدارة والقدرة على نموذج متناسق تكون أطرافه قادرة على التناغم بالشكل الذى يقود إلى إنتاج وتسويق، مع دراسة الأسباب التى أدت إلى تعثر تجارب سابقة لتمويل الصناعات الصغيرة والمتوسطة، ومنها الصندوق الاجتماعى للتنمية، أو التجارب التى قدمت قروضا للشباب أو الصناعات من دون نتائج، وأدت فى النهاية إلى محاصرة أصحاب المشروعات بالديون، مع العجز عن تصريف المنتجات. ومعروف أن التشخيص السليم أول مراحل العلاج، وملف الصناعة بمصر يزدحم بالتفاصيل المهمة، وعلى مدى حلقات قدم الزملاء فى قسم التحقيقات بـ«انفراد» منى ضياء، ومصطفى عبدالتواب، وأحمد جمال الدين، محمد سالمان ملفا، فتحوا فيه جراح الصناعة المصرية وآلامها، امتدت الجولة إلى المناطق الصناعية فى مدن أكتوبر وبدر، بوابات الاستثمار، وكيف تواجه مشكلات تبدأ من التراخيص، وتصل إلى نقص الخامات، وارتفاع الجمارك وارتفاع سعر العملة مرورا بتخصيص أراضٍ. اكتشفنا كيف نجحت مصانع متوسطة فى تحقيق إنتاج من الزجاج والكرتون وقطع الغيار والبولى بلاست، وأنهم نجحوا فى صناعة ماكينات محلية، ومنتج منافس، لكنهم يواجهون أزمات الخامات أو الجمارك أو التسويق. تناول الملف أيضا مشكلة تتعلق بالصناعة عموما والمنافسة، وهى: «التقفيل» أو «الفنش» وهى مشكلة شائعة، وتمثل أحد أهم أسباب العجز عن المنافسة وتتركز فى إنتاج حذاء أو جلود أو ملابس بخامات جيدة جدا ومتانة، لكنها تواجه الإهمال فى الخطوات النهائية، وهو عيب يتعلق بالتدريب ونقص العمالة، ويحرم المنتج المصرى من المنافسة داخليا وخارجيا، ويتطلب العمل بين الدولة والصناع لاستعادة وعى العمالة الماهرة، التى تؤمن أن «الفنش» أحد أهم مراحل الصناعة، وأن ما نطلق عليه» الإتقان يتجاوز الكلام الأخلاقى إلى أن يكون أحد قوانين العمل من أجل المنافسة، وأن الفهلوة والـ«كلشنكان» يؤديان لخسارة للعامل وصاحب العمل، وكان حرمان منتجاتنا الزراعية والصناعية من التصدير فى العالم بسبب « الفهلوة» وعدم الإتقان، وبالتالى فإن جزءا من دعم الصناعة هو وعى المنتج بأن المنافسة تحتم الإتقان. لقد حققت دول كثيرة قفزات اقتصادية بالتفكير من داخل الصندوق، وبتفكير من خارج الصندوق، ونحن نريد أفكار الصندوق فيما يتعلق بالإتقان والمنافسة والجودة والتسويق والعرض الجيد، ولا مانع من أن نتعلم من دروس الآخرين و التجارب التنموية الناجحة. ثم إن الحديث عن دعم الصناعة لا يعنى فقط إنتاج سيارات أو أجهزة كهربائية أو منتجات قد لا نستطيع المنافسة بها، بل يمكن من خلال دعم منتجات لدينا فيها خبرات وتكاد تنقرص بسبب الإهمال وهروب العمالة الماهرة والأسطوات، وقد رصدنا أحوال حرف وصناعات صغيرة، تعانى من أزمات، مع أنها تحتاج إلى نفحات للمحافظة عليها، ويمكن أن تكون حال تسويقها مصادر للدخل والتصدير، ومنها الأرابيسك والنحاس والفضة والخيامية والجلود والفخار وهى حرف لو حصلت على دعم يمكن أن تعود لتمثل مصادر دخل مهمة. يضاف إلى ذلك أن الحديث عن صناعات صغيرة ومتوسطة، يحتاج مؤسسة يمكنها أن تقدم مساعدات فنية واستشارات ودراسات جدوى، وتدريبا فى التسويق، وتنسق بين أطراف الصناعات الممكنة، ولا ننسى أن التسويق مهم مثل المنتج نفسه. لقد أعلنت الدولة والحكومة من قبل عن 200 مليار جنيه خلال 4 سنوات للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وإذا توفرت إرادة يمكن أن تكون هذه المشروعات قاطرة للتنمية، لكنها تحتاج للانتقال من الكلام إلى الفعل.
7 خطوات «تقفل» المستثمرين من السوق المصرية..أحد الشباب الراغبين فى الاستثمار يشكو من تعدد الجهات المسؤولة عن تأسيس مصنعه
7 خطوات وإجراءات أساسية يجب أن يخوضها أى مستثمر أو شخص يرغب فى للعمل، والدخول فى السوق المصرية، تصد ما تحدث عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى من نظرية «الشباك الواحد» لتبسيط الإجراءات التى تبدأ بالذهاب إلى وزارة الاستثمار لتسلّم أوراق تأسيس شركة، ثم يتجه المستثمر إلى وزارة الصناعة لإنشاء سجل تجارى، ثم إلى وزارة المالية حتى ينشئ بطاقة ضريبية، ثم يعود إلى وزارة الاستثمار للانضمام إلى صحيفة الشركات.
فيما تأتى خطوة تخصيص أرض من أهم الخطوات التى تسهل على المستثمر إنشاء مصنعه، وهو ما يتطلب الذهاب مرة أخرى لوزارة الاستثمار للتقدم بأوراقه إلى القرعة، وبعد ذلك يجب على صاحب المصنع البحث عن رخصة تشغيل، وهو ما يحتاج الى استخراج تصاريح الحماية المدنية من وزارة الداخلية، وتصاريح البيئة من وزارة البيئة، وأحيانًا تصريح الصحة. الخطوات السابقة هى العناوين الرئيسية لطريق المستثمر إلى السوق المصرية، معها مجموعة من الخطوات الفرعية، كاستكمال أوراق أو شراء دمغات وغيرها من الإجراءات، و هو ما يقول عنه المهندس بهاء العادلى، رئيس مجلس إدارة جمعية مستثمرى بدر، إن كل مستثمر يمر على وزارات الجمهورية كاملة، حتى يتمكن من الحصول على الموافقة له بإنشاء مصنع جديد.
وأكد «العادلى» أن المستثمر الذى يقرر الدخول فى السوق يقابله الروتين فى مشواره الأول، والمشكلة معروفة، وحلها أيضًا معروف، فالأمر يحتاج إلى إرادة، وبالفعل توفرت هذه الإرادة مع وعود الرئيس السيسى، لكن الوزارات يتمسك كل منها باختصاصه، والحل فى ربط إلكترونى بين هذه الوزارت لإنهاء أزمة الروتين التى تعطل أى مستثمر جديد.
فيما قال أحد الشباب الراغبين فى الدخول للسوق المصرية بصناعة «الكرتون»، يدعى محمد موسى، إن إجراءات تأسيس شركته أجبرته على زيارة كل وزارات الدولة، حتى يتمكن من إنهاء الإجراءات السابقة الإشارة إليها، قائلًا: «لفيت على كل الهيئات و لسه مخلصتش».
وأكد «موسى» لـ«انفراد» أنه كمستثمر جديد فى السوق لا يريد الدخول فى دائرة الروتين، ولا يريد أن يكون هذا الروتين هو عنوان السوق المصرية، لأنه لو تحمل المستثمر المصرى فالمستثمر الأجنبى لن يتحمل الدوران حول المكاتب الحكومية.
ويرى الشاب أن الإجراء الخاص بالحصول على أرض داخل منطقة صناعية من أصعب الإجراءات، لأن القرعة تجبر المستثمر على أن يجمد أمواله ما يقرب من عام، منتظرًا أن يصادفه الحظ و يأتى اسمه فى القرعة ليحصل على الأرض، و فى حالة عدم حصوله على الأرض يضطر المستثمر للجوء إلى طريق آخر، هو أن يذهب إلى شخص آخر حصل على الأرض بالقرعة ليشتريها منه، وفى هذه الحالة يبدأ سعر المتر الواحد بـ 1000 جنيه. واختتم «موسى» حديثه قائلاً إنه كشاب يحصل على تمويل من البنك لمصنعه، وهو ما يحتاج إلى فترة سماح أطول حتى يستطيع العمل أولًا، ثم الدخول فى مرحلة السداد، مشددًا على ضرورة ألا تكون الدولة منافسًا للمستثمر فى منتج معين بمعايير غائبة عن المنافسة، حتى لا يضطر إلى مغادرة السوق، سواء كان مستثمر ًا أجنبيًا أو مصريًا. فيما حذر على حمزة، رئيس جمعية مستثمرى أسيوط، شباب المستثمرين من الفشل حال دخولهم إلى السوق دون وضع دراسة تسويقية، مهما بلغت إمكانياتهم المادية، كما حذرهم من الاقتراض من البنوك للإنشاء فقط، وألا يكون المبلغ الذى سيتم اقتراضه «رأس مال عامل»، حتى لا يتعثروا فى السداد، ويفشل مشروعهم، فعليهم عدم البدء فى إجراءات التأسيس قبل تفادى هذه العقبات.
وأكد «حمزة» أن هناك مبالغة فى المبالغ والرسوم المخصصة للدفاع المدنى قبل إعطائه الرخصة، مطالبًا بضرورة إيجاد حل فى هذه المبالغ حتى لا ترهق المستهلك لتخفيف العبء عليه، خاصة فيما يتعلق بالمصانع الصغيرة، مشيرًا إلى أن الروتين أحد مسببات تعطيل الاستثمار، علاوة على عدم إعطاء تسهيلات ائتمانية للمستثمرين فى البنوك حتى بعد طرح مبادرة البنك المركزى.
وأضاف رئيس الجمعية، قائلاً: «حماية المنتج المحلى من المستورد أهم العقبات التى تنتظر المستثمر الجديد»، قائلًا: «بلاش أستورد لو المنتج المصرى ذات جودة جيدة، وإعطاؤه معايير لمواصفات الجودة الخاصة به».
المادة الخام.. نقطة البداية.. نصدر الجلود والرمال ونستوردها أحذية وزجاجاً.. والمستثمرون يصرخون من ارتفاع أسعار استيرادها
دائما ما نسمع عن أزمة المستثمرين فى توفير المادة الخام اللازمة للصناعة، و هو ما أكده الكثير منهم فى حملة «انفراد» عن المعوقات التى تواجه المنتج المحلى، حيث برزت المادة الخام كأهم المشاكل، خاصة مع فرض قيود على استيراد المستلزمات الصناعية، لدرجة أن البعض لوح بأنه قد يضطر إلى إيقاف استثماراته لحين توفير المواد الأولية و بأسعار تمكنه من الاستمرار و تحقيق هامش ربح مناسب. مدخلات الصناعة هى بالفعل البداية التى من خلالها يمكن الحكم على المشروع بالفشل أو بالنجاح، فإذا توافرت الخامات و بأسعار مناسبة و بجودة عالية، وقتها يستطيع المنتج المحلى أن يستمر، ويكمل طريقه نحو المنافسة. و لكن مع كل الدعم الذى توجهه الدولة نحو تشجيع الصناعة المصرية، إلا أن المادة الخام لا تزال بعيدة عن خطة الحكومة نحو التطوير المنشود، رغم أهميتها الكبرى فى الصناعة. ووفقا لأرقام البنك المركزى فى آخر تقرير سنوى له عام2014 – 2015، فقد انخفض تصدير السلع نصف المصنعة فقد انخفض تصديرها بنحو 265.2 مليون دولار، أى بنسبة 12% ليبلغ حجم التصدير 2 مليار دولار. بينما ارتفعت الصادرات من مجموعة المواد الخام بنحو 240 مليون دولار، أى بمعدل 16.1 % لتبلغ 7 مليار دولار.
قائمة المواد الخام التى تتمتع بها مصر طويلة، على رأسها الخامات التعدينية منها الفوسفات، الذى نصدره كخام ونعيد استيراده كمنتجات كيماوية، و الرمال الناعمة التى نصدرها دون تصنيع ثم نستوردها كزجاج. ونفس الأمر بالنسبة للرمال السوداء التى تحتوى على معادن مهمة كاليورانيوم، وكما نقوم بتصدير الرخام كبلوكات دون أى قيمة مضافة، ونعود لاستيراده مرة أخرى على هيئة بلاط رخام جاهز باهظ الثمن، أما الجلود فهى أيضا نصدرها كما هى أو نصف مصنعة، وبعدها نستوردها على شكل أحذية وشنط.
الاهتمام بالمادة الخام والحد من تصديرها أكد عليه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى أول خطاباته، مشددا على ضرورة معالجتها وتصنيعها محليا، لأن ذلك سيساهم فى زيادة القيمة المضافة للمنتجات والصناعات الوطنية، وسيحل العديد من أزمات المصانع، و هو الفكر الذى يجب على القائمين على الصناعة حاليا أن يتجهوا إليه لتحقيق أقصى استفادة من ثرواتنا بما يعود علينا بدخل اقتصادى أعلى من مجرد بيعها كمواد أولية.
العدد اليومى